“في بيتنا كُتَّاب”

عربي بوست
تم النشر: 2018/07/10 الساعة 12:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/07/10 الساعة 13:31 بتوقيت غرينتش

تمر الأيام سريعاً وتنقضي، لكن الذكريات والمواقف والمبادئ التي حُفرت في الذاكرة منذ الصِّغَر لا تُمحى ولا تُنسى، خاصة إذا كانت مميّزة، ومع كل منها قِصة، فما زالت ذكريات الطفولة البعيدة عالقة في ذهني لا تفارق مخيلتي؛ حينما كان يتفاخر الأصدقاء، كل بما لديهم فرِحون، كنتَُ أجد نفسي أسعدَهم، بل وأكثرهم حظاً، من وجهة نظري؛ حيث كان في بيتنا كُتَّاب (المكان الذي يحفظ فيه الصبية الصغار القرآن الكريم، ويتعلمون من خلاله مبادئ القراءة والكتابة، بل والقيم النبيلة والأخلاق الطاهرة).

تحضرني مشاهد ذلك الكُتَّاب الذي كان في بيتنا، فمنذ نعومة أظافري، ومنذ أن وعيت على هذه الدنيا في بيتنا بقريتي البسيطة (أم دينار بمحافظة الجيزة المصرية)، التي اشتهرت بحفظ القرآن وتعليمه وقراءته، لا أنسى ذلك المشهد: أطفال كُثر يتحلَّقون حول والدي -أطال الله بقاءه ومتَّعه بالصحة والعافية- ما زلتُ أذكر أسماءهم، منهم مَن يراجع، ومنهم مَن يردد وراء والدي آيات من الذكر الحكيم.

كنتُ في الخامسة من عمري.. وها أنا سأبدأ مشوار حفظي ورحلتي مع القرآن، وتعلُّم الكتابة، أُمسك بـ"لوحي الخشبي"، وقلمي "الغاب" (نبات يستخدم في صنع الأقلام التي تستخدم قنّينة الحبر اليدوي في الكتابة)الذي انتقاه لي شقيقي، وقد كتب عليه (أَ) (ألف فتحة أَ)… آهٍ، وأتذكر حينما وصلتُ إلى سورة "الذاريات"، وتقدَّمت لمسابقة تابعة للأزهر الشريف، كم كان هناك اهتمام بحفظ القرآن من قِبَل الدولة وتشجيع الأطفال على ذلك! وهو ما نفتقده  في وقتنا هذا، ونجحتُ وحصلت على تلك الجائزة التي كانت عبارة عن مبلغ نقدي (12 جنيهاً)، طِرتُ ساعتها من الفرحة -كما يقولون- ليس لحصولي على ذلك المبلغ، ولكن لأن للنجاح طعماً لا يدركه إلا مَن تذَّوق حلاوته وأحسَّ بها.

أعود لـ"سيدنا"، كما كان ينادي عليه الأطفال في الكُتَّاب -أو هو والدي- وكيف كان يتفانى من أجل تحفيظ هؤلاء الأطفال آيات القرآن الكريم.. ومع ما كنتُ أشاهده في الإعلام من مسلسلات في ذلك الوقت -وما زالَت- تشوَّه صورة محفِّظ القرآن بشكل فج خارج عن القيم النبيلة؛ حيث كانوا يزعمون أنه ذلك الرجل الفظّ الغليظ، صاحب "الكِرش"، الذي لا تمتلئ معدته أبداً، يسعى وراء (الفتَّة واللحمة)، وكأن ذلك كلّ همّه.. يضرب الأطفال على أهون سبب.. كنت -مع صغر سنّي- أقارن بين تلك الصورة التي أزعجتني كثيراً -وما زالت- وبين الواقع في قريتي، بل أمام ناظريّ في صورة والدي؛ حيث كانت تنتشر هذه الكتاتيب بشكل لافت في قريتنا، وربما الآن يوجد بعضها، لكنني لم أجد صورة ذلك الشخص، التي حفروها في أذهان الجميع، حتى ظللت فترة أتشكّك فيمن يمارسون تلك المهنة؛ لكنني كنت أتساءل: أليس والدي واحداً منهم؟ فكيف أتوا بهذه الصورة القبيحة؟! قبَّح الله مَن أشار عليهم بذلك.

إذا كان مِن فخر، فإنني أفخرُ بذلك الكُتَّاب الذي قابلت معظم مَن تعلموا فيه، فيما بعد، ممن كانوا وقتها أطفالاً، وصاروا الآن مِن قارئي القرآن، ومنهم مهندسون وأطباء وصحفيون ومعلمون.. ولن أنسى ما حييت ذلك المشهد الذي رأيته بعينيّ لذلك الرجل الذي يصغر والدي ربما بعشر سنوات فقط، مع ما قد وسَّع الله عليه من مال، ومكانة اجتماعية.. وقد هوى إلى قدمَي والدي، مقدماً له حذاءه؛ ليُلبسه إياه، وبينما هممتُ لأقوم بذلك بدلاً منه، إذ به ينهاني عن ذلك بلطف، ويقول لي: "يا ابني، مَن علَّمني حرفاً صِرتُ له عبداً، ووالدك قد قام بتحفيظي في كُتّابِكم قديماً آيات القرآن الكريم التي أعيش ببركتها الآن"؛ لذلك فإنني دائماً ما أتذكر كُتَّاب والدي حفظه الله ذلك، بل وأذكّر من حولي بقولي دائماً: "كان في بيتنا كُتَّاب".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
رزق عبدالمنعم
كاتب صحفي ومدقق لغوي
تحميل المزيد