هل سقطت الإمبراطورّيتان الساسانية والبيزنطية أمام الجيوش العربية لضعفهما أم أن الأمر مختلف تماماً؟!

عدد القراءات
1,945
عربي بوست
تم النشر: 2018/07/04 الساعة 10:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/07/04 الساعة 10:09 بتوقيت غرينتش

في أمسية ماضية من توقيع كتاب "السّلَطة من مكة إلى قرطبة"، لمؤلفه سفيان مصطفى، وإصدار دار المها للنشر والترجمة، قمت بمداخلة حول نوعية الأطعمة التي اعتاد العرب تناولها في منطقة الجزيرة العربية، وقلت إن نوعية الأطعمة الصحية كالتمر وحليب النوق، وبالإضافة إلى الغزوات والحروب التي شاركت فيها أغلب القبائل، هذان العنصران بالإضافة إلى العقيدة المتمثلة بالإسلام كان لهما دور رئيسي في بناء جيوش قوية ومقاتلين أشداء، استطاعوا اجتياح دولتي ساسان وبيزنطة، رغم كون هاتين الإمبراطوريتين كانتا من القوة والبأس في تلك الفترة، بحيث يصعب على أي قوة إسقاطهما، ورغم ذلك لم تستطيعا الصمود أمام القوة الطاغية للعرب والمسلمين. وقد اعترض على مداخلتي بروفيسور مختص بتاريخ الشرق الأوسط، وسمَّى مداخلتي تاريخاً متخيَّلاً، وأنني لا أملك دليلاً واحداً على ذلك. طبعاً، لم أعلق على كلامه؛ احتراماً له، وحتى لا يتحول النقاش من الطعوم العربية إلى تفسير لأسباب سقوط الإمبراطوريتين.

لم يكن من الأمر بدٌّ من أن أتطرق إلى الأمر لأهميته، وأن أوضح أن سقوط تلك الدول لم يكن بسبب ضعفها؛ بل بسبب القوة الطاغية للجيوش العربية، والدوافع السامية التي كانت تحرك العرب حينذاك.

إن معظم الخبراء والمؤرخين يجزمون بأن سقوط دولة كسرى ودولة بيزنطة كان لضعفهما بعد حروب طويلة، وأن العرب استغلوا هذا الضعف لاجتياح المشرق العربي وفارس وخراسان وأرمينيا ومصر، بفضل هذا الضعف الشديد. ويحاول المؤرخون شرح حالة الظلم والاضطهاد التي تعرَّض لها سكان هاتين الإمبراطوريتين، وكيف قبلوا الحاكم الجديد برحابة صدر، وخاصة أن الجيوش العربية لم تنهب البلاد، ولم تضطهد العباد، وأبقت كل فلاح في أرضه.

إذا أردنا تأكيد أو نفي نظرية ضعف الإمبراطوريتين، فعلينا أن نقارن الأمر مع حالات مشابهة حدثت في التاريخ، وسأختار حالتين مهمتين؛ الأولى: صعود الإسكندر وسقوط الدولة الأخمينية. والثانية: صعود روما وسقوط قرطاجة.

سقطت الدولة الأخمينية تحت جحافل الجيش المقدوني، بعد 3 معارك فاصلة؛ معركة نهر الغرانيكوس، ومعركة إسوس، ومعركة جوجميلا. ولم تستمر كل معركة إلا نصف نهار، أو نهاراً كاملاً على الأكثر، وسقطت مصر من دون قتال، واستقبل أهل مصر الجيش المقدوني بالترحاب. ورغم كل ذلك، لم يقم الغرب ومؤرخوه بادعاء أن الدولة الأخمينية كانت في قمة الضعف، وأن الرغبة انعدمت لدى الجيوش المرتزقة التي تحارب تحت قيادة الملك الأخميني في قتال جيوش الإسكندر، كما أن بعض الحكام المحليين انضموا إليه بسبب خلافات مع الملك داريوس الثالث، ورغم الإنجازات الباهرة التي وصل إليها الإسكندر فإن دولته لم تصمد بعد موته إلا سنوات قليلة.

أما الحروب البونية التي وقعت بين قرطاجة وروما، فقد استمرَّت سنوات طويلة أثبت فيها حنبعل أنه قائد محنَّك يملك صفات القائد العبقري. ورغم انتصاره في أغلب المعارك، فإنه خسر المعركة الأخيرة؛ لخذلان مجلس الشيوخ القرطاجي له، وتحالف القبائل البربرية مع روما. لا يمكن القول هنا، إن روما كانت ضعيفة، ولكنها كانت تملك الدافعية للثأر، ورغبة التوسع والتصميم في السيطرة على تجارة قرطاجة، رغم أن حنبعل كان قائداً فذّاً لا يُشق له غبار، ولكنه افتقر إلى الحنكة السياسية فخسر كل شيء، وخسرت قرطاجة أساطيلها البحرية وتجارتها الواسعة، وسُويت المدينة بالأرض وبيع أهلها عبيداً.

كانت المعارك التي خاضها حنبعل ضد روما تستمر يوماً وبعض يوم، وكذلك معركة زاما التي خسرها هذا القائد الفذ، لم تستمر إلا يوماً واحداً، رغم كل ذلك، لم يأتِ أحد من المؤرخين بادعاء أن قرطاجة كانت ضعيفة؛ بل كانت تفتقد الدافعية للحروب والقتال، ولم تُحسن إدارة الحرب، ولم تستوعب الخطر الروماني.

أما حروب الفتح العربية، واسمحوا لي بأن أسميها فتحاً؛ لأنها كانت ذات معنى، ولها أهداف سامية وأتت لتغير وجه التاريخ ويتحول العرب حَمَلة للحضارة الإسلامية، والعولمة الأولى في التاريخ. هذه الحروب كانت حروباً طاحنة، ولم ينتصر العرب في تلك الحروب إلا بعد أن خاضوا عشرات المعارك الصعبة ودفعوا أثماناً غالية من أرواح أبطالها الذين خاضوها طلباً للشهادة في سبيل الله، وتخليص الشعوب المحتلة من هاتين الإمبراطوريتين. أما أشهر المعارك التي خاضها العرب ضد الفرس، فهي: ذات السلاسل، والمذار، والولجة، وأليس، والجسر، والنمارق، وقس الناطف، والبويب، والحيرة، والأنبار، وعين التمر، والمضيح، والثني، والزميل، والفراض. ومن أجل المقارنة، فإن معركة القادسية استمرت 4 أيام، ومعركة نهاوند استمرت 3 أيام. أما في الشام، فقد خاض العرب عدة معارك قبل معركة اليرموك؛ كمعركة مرج راهط، وأجنادين، وفحل.

معركة اليرموك استمرت 6 أيام، ويمكن النظر إليها كمثال في التاريخ العسكري عندما تستطيع قوة عسكرية صغيرة تحت قيادة حكيمة التغلب على قوة عسكرية تفوقها عدداً. لقد سمح قادة الجيش الإمبراطوري لعدوهم باختيار أرض المعركة التي يريدها. وحتى ذلك الحين، لم يكن لديهم ضعف تكتيكي كبير. لقد عرف خالد بن الوليد، قائد الجيوش العربية الإسلامية، منذ البداية، أنه أمام قوة كبيرة جداً. وحتى اليوم الأخير من المعركة، أدار خطةً دفاعية فعالة ملائمة لمصادره المحدودة نسبياً. وعندما قرَّر الهجوم في اليوم الأخير من المعركة، فقد قام بذلك على درجة من التخيل وبُعد النظر والشجاعة، الأمر الذي لم يتصوره أي من القادة البيزنطيين.

ورغم أنه قاد قوةً صغيرةً عددياً، وكان بأمسِّ الحاجة إلى كل الرجال الذين يمكن جمعهم، كانت لديه الجرأة وبُعد النظر لشطر فرقة من خيالته في الليلة التي سبقت هجومه لتأمين الطريق الحيوي لانسحاب عدوه.

يجب أن أذكر أن هرقل ملك الروم، ويزدجرد الثالث ملك الفرس، قرَّرا أن يتحالفا ضد العرب وينسّقا هجوماً مضاداً، فتصاهرا، ولكنهما لم ينجحا في تنفيذ مخططهما؛ لأن الفرس خسروا معركة القادسية وتراجع الفرس. أما الهجوم البيزنطي المضاد، والذي كان تحالفاً من 5 جيوش، فقد تمت هزيمته في اليرموك.

كل ما ذكرته سابقاً لا يؤكد الفرضية التي تقول إن هاتين الإمبراطوريتين كانتا في حالة من الضعف الشديد، كما أن المدن لم تسقط بمجرد وصول العرب إليها؛ بل سقطت بالتسليم بعد حصار طويل؛ أي أن الثمن الذي دفعه الإسكندر للقضاء على الدولة الأخمينية لم يكلفه الكثير من الجنود، ولا كثيراً من الوقت، بينما دفع العرب ثمناً باهظاً جداً، وسقط عشرات الألوف منهم في المعارك التي خاضوها في حربهم ضد جيوش الإمبراطوريتين.

أريد أن أنوه هنا إلى أن سقوط مصر كلَّف العرب كذلك ثمناً باهظاً، ولم يفتح عمرو بن العاص مصر إلا بعد خوضه حروباً شديدة، ويشمل فيما يشمل خسارته الإسكندرية مرتين أمام الأساطيل البيزنطية.

أنا لا أبحث عن تاريخ متخيَّل، ولا أحاول خداع نفسي والآخرين، الحقائق تتحدث عن نفسها، ولكننا لا نراها، وكثير ممن يقبل الرواية الغربية، وأحياناً نسميها الاستشراقية، يرفض القبول بتفسيرات جديدة تلقي الضوء على الوقائع التاريخية من وجهة نظر عقلانية، والتي تلغي وتنفي كثيراً من الحقائق التي تعلمناها في المدارس والجامعات.

خلال السنوات الأخيرة، توصَّلت إلى قناعة -لا تقبل الشك- بأننا نحتاج إلى إعادة لكتابة التاريخ المرتبط بالعرب والإسلام، وهذا يشمل كل الشعوب والأقوام التي كان لها تواصل مع العرب عبر التاريخ. لذلك، فقد قرَّرت البدء بإعادة كتابة التاريخ العربي كما أراه أنا، ولن أقبل رؤية أي من المؤرخين من دون أن أكون مقتنعاً بصحة نظريته أو صحة الأحداث، وسأعتمد على كل المصادر التاريخية العربية وغير العربية، التي تعلمناها في دراسة التاريخ، حسب النظريات الغربية.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
إياد سليمان
باحث ومفكر سوري
تحميل المزيد