في انتظار انطلاق القطار المتجه إلى القاهرة وفي إحدى عربات الدرجة الثانية أجلس فوق مقعد يميل بظهره للخلف متخذاً زاوية تتعدى المائة والعشرون، فعلى ما يبدو أن بصمة الزمن قد أصابت أجزاء العربة من مقاعد وجدران لتكييف يتظاهر بالعمل وبالكاد يشعرك ببعض التغيير في درجة الحرارة. أتحسس بيديّ مفتاح ضبط الكرسي لألمس إحدى القطع الحديدية البارزة يبدو أنها قد وضعت بديلاً عن المفتاح لا لتقوم بعمله ولكن فقط لتحفظ مكانه مغطى.
يقطع محاولتي في الاستكشاف هذه صوت أحد الباعة الجائلين يتنادى بأصناف عطور رجالية، أرفع عيني لأجد شاباً في منتصف العقد الثالث من عمره يبدو للرائي من الوهلة الأولى بملابسه المهندمة ورائحته الطيبة أنه من هؤلاء الذين هبطوا اضطرارياً بفعل الحالة الاقتصادية وانعدام فرص العمل من فئة اجتماعية ما لأخرى أقل، ومع ذلك تلمح فوق شفتيه ابتسامة رضا قد يتمناها من هو بظروف أفضل..
اللافت للانتباه أنه لا يتنادى إلا بالأنواع الرجالية من العطور ولا يعرض بضاعته إلا للرجال، ربما يكمن السبب في هذه اللحية الكثيفة، فهو من هؤلاء الذين لا يبيعون العطور للنساء لأسباب دينية لديه.. يقطع أفكاري ورقة وُضعت فوق قدمي ومثلها أمام من بجانبي مكتوب عليها بعض الجمل تفيد بأن أختاً لأربع يتيمات تطلب المساعدة وعليك التبرع ولك حسن الجزاء، لأبحث بعيني عن الفتاة صاحبة الورقة لأجدها قد انتقلت لعربة أخرى محتفظة بصمتها مكتفية بإلقاء الورقة، على ما يبدو أنها طريقة مبتكرة لتوفير الطاقة المبذولة في كلام قد لا يُجدي لاستجداء تعاطف، حتى الشحاذون لم يستثنوا من الإصابة بضيق الخلق.
يتعالى صوت أحد مفتشي القطار مشيراً لأحدهم بالخروج وركوب الدرجة العادية، والآخر يستجديه أن يتركه يتمتع ببعض الهواء مستخدماً قميصه لتحريك الهواء في حركة تشير لشدة الحر. يبدأ القطار في التحرك ببطء، أظن أنه فقط يضبط الوضع استعداداً للانطلاق. تزداد سرعة القطار شيئاً فشيئاً وأحاول أن أستوعب أن القطار ينطلق مكملاً رحلته والمقاعد بوضع معكوس ما يصيبك بدوار نتيجة الجلوس بوضع معاكس لاتجاه حركة القطار لأبحث في حقيبتي عن أحد الأقراص المضادة للدوار.
يأبى المفتش والشاب إلا أن يستكملا شجارهما، الشاب يحرك قميصه حركة للأعلى والأسفل كبديل لمروحة مصيحاً شوية هوا بس شوية هوا، وبصوت أعلى يجيبه المفتش أن عليه النزول ولا داعي للمشاكل، بنظرة تحدٍّ يجيبه الشاب بأنه سيدفع واضعاً إحدى يديه فوق جيب خفي بسرواله ليتركه المفتش، ثم ما يلبث أن يغادر العربة لأخرى تليها تاركاً إياي في حالة خوف واستغراب من القادم.. فرغم المقاعد المتهالكة والتكييف التالف تعد هذه الخدمة على سوئها حلماً ورفاهية قد تمثل تحدياً لأحدهم.. أخاف أن يصير ما نوصفه بالوضع البائس اليوم حلماً بعيداً فيما بعد.. يعود المفتش لفحص التذاكر وتحصيل قيمة التذاكر مضافاً إليها غرامات عدم الحجز من الآخرين ليأتي الدور على أسرة مكونة من ثلاثة أشخاص بدا أن وجهتهم قريبة ليتفاجأ رب الأسرة بأن عليه دفع ثلاثة وأربعين جنيهاً، ليتساءل بضيق عن الدرجة الأقل ليجيبه المفتش بأن الأمر لن يفرق كثيراً وسيكون عليه دفع اثنين وثلاثين..
يقرر الأب الذهاب بأسرته للدرجة الأقل، دقائق وتعود الأم وابنتها وعلى ما يبدو أن شجاراً قد نشب انتهى بترك الأب وحيداً في الدرجة الأقل. أتذكر ذلك الشاب الذي كان يقاتل من أجل الوقوف ليأتيني الجواب بصوت أحد العاملين أن أحدهم قد وقع بالأرض وانتفض وأن الركاب بإحدى العربات قاموا لإجلاسه من الواضح أنه قد فاز بمراده في النهاية.
يتوقف القطار في إحدى المحطات ليصعد بعض الركاب من بينهم سيدة قد تجاوزت الخمسين من العمر تحمل حقيبة سفر كبيرة وتدخل العربة ممسكة بيدها إحدى التذاكر مشيرة لشابين يجلسان بأن هذا مكانها ليجيبها الشابان بالصمت، لتردد سؤالها وتعيد النظر إلى أرقام المقاعد لتعاود طلبها وتأكيدها أن تذكرتها تحمل الرقم الصحيح للمقعد ليجيبها أحدهم بأنه للتوّ قد دفع قيمة التذكرة، لتجيبه بأنها قد حجزت منذ الأمس وأن هذا مقعدها، تتعالى أصواتهما وسط حالة من الدهشة، ربما يصف البعض تصرف الشاب بشيء من النطاعة. بطبعي لا أميل للاستباق والتصنيف ربما حقاً لا يعرف القواعد الأكثر غرابة بالنسبة لي ليس موقف الشاب بقدر موقف ذلك الآخر الجالس بجانبه هو أيضاً ممن وقعت عليهم الغرامة، ومع ذلك لم يقم لمن خلفها غريباً أن يتصادف جلوس اثنين لا يعرفان القواعد بجانب أحدهما الآخر. أخيراً أتى المفتش وطالبهما بترك المقعدين لتتعالى أصواتهما، أولهما مطالباً باسترداد قيمة التذكرة وأنه لو يعرف منذ البداية أن مصيره الوقوف لكان قد ذهب إلى الدرجة الأقل فليس هناك فارق.
فوق مقعدي المعكوس ورغم الدوار الحادث برأسي أتذكر ذلك الشاب في أول الرحلة وهو يحرك الهواء بقميصه مستجدياً فقط الوقوف لبعض الوقت رغماً عني أتذكر رواية يوتوبيا للكاتب الدكتور أحمد خالد توفيق ليكون هذا أشبه بما بين اليوتوبيتين أو ما قبل اليوتوبيا أيهما يليق لك فلتسم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.