من ياسمين الشام إلى توليب إسطنبول

عربي بوست
تم النشر: 2018/07/02 الساعة 16:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/07/02 الساعة 16:23 بتوقيت غرينتش
Landscape view of Istanbul, Turkey

ارتبطت إسطنبول في ذاكرتي بصور فوتوغرافية بالأبيض والأسود، التقطها والدي ووالدتي عندما قاما برحلة إلى المدينة بعد زواجهما مباشرة، نسميها رحلة شهر العسل.

كانت الصور رائعة جداً، وبدت والدتي فيها جميلة مشرقة وسعيدة، وكنت أحب عندما كنت صغيرة أن أُخرج هذه الصور من صندوقها المصنوع من الخشب المحفور بين الحين والحين، وأن أنظر إليها طويلاً؛ لأحفظ كل تفاصيل المدينة الجميلة، ثم أطلب منها أن تحكي لي تفاصيل الرحلة وتعيدها كل مرة، لكنني لم أتخيل يوماً أن إسطنبول ستكون لي الوطن يوماً.

بدت إسطنبول كريمة جداً معي عندما وصلت إليها، لتمنحني البحر الذي أعشق، في حين كنت أسافر نحوه ساعتين عندما كنت أسكن بمدينتي السورية.

منحتني إسطنبول أيضاً احتفالاً بزهور التوليب الساحرة، يبدأ في يوم ميلادي، وكنت أُقنع نفسي بأنها تحتفل بي ومعي فأفرح.

ومنحتني شعوراً بالانتماء إلى أمة الإسلام الكبيرة وأنا بين المسلمين الأتراك، بعد أن فرَّقتنا المؤامرات طويلاً، ومنحتني شعوراً بالعزة بسبب هذا الانتماء الذي أبعدَ عنا شعورنا بالغربة.

بدت إسطنبول ساحرة أيضاً وهي تجمع الحداثة والعراقة؛ البحر والجبل؛ الشرق والغرب؛ الهدوء والصخب؛ الصحو والمطر؛ الدين والدنيا؛ الرهبة والأمان؛ وشعوري بالفخر والمحبة نحوها.

هذا الحب والإعجاب نحوها جعلاني أكثر خوفاً من أن أفقدها يوماً كما فقدت كل شيء جميل في سوريا، وما زلت عاجزة عن أن أعيش احتفالات العيد وسعادته وطقوسه في إسطنبول منذ 4 سنوات.

ربما لأني لا أريد أن أصنع ذكريات لي فيها ثم أغادر وتصبح ذكريات المدينة الجميلة موجعة جداً كما هي ذكريات بلادي ومدينتي.

ولأن شعوري بعدم الأمان يتجدد كلما تحدثتْ أحزاب المعارضة عن إعادة السوريين إلى بلادهم في أولويات برامجهم الانتخابية، فأتخيل برعبٍ تلك الرحلة، ثم أبدأ بالتخطيط لرحلة هجرة جديدة نحو بلد آخر بحثاً عن الأمان، وأتخيل أنني سأودِّع إسطنبول.

لكنني متأكدة أنني في هذه الرحلة سأحمل الكثير من أزهار التوليب التركية التي أحببت، ولن أنساها مطلقاً كما نسيت أن أحمل معي شجرة صغيرة من ياسمين سوريا ولم أفكر في الأمر حتى أصبح مستحيلاً، ثم تأكدت أن الياسمين السوري لا يمكن أن نجده كما نعرفه إلا فيها، وأن فراقه سيكون حزيناً جداً ويوجع قلب كل السوريين في الغربة.

في أحد الأيام وعلى مائدة إفطار جمعتني بنساء سوريات في ليلة من ليالي رمضان، أخرجت لنا إحدى السيدات الكبيرات في السن باقة من الزهور البيضاء الصغيرة، تشبه أزهار الياسمين الدمشقي تماماً، وقامت بتوزيعه علينا في حين كنا نرتشف الشاي التركي بعد تناول الطعام.

بلهفة وشوق أمسكت حصتي من الزهور، واقتربت منها لأتنشق عطرها الذي ظننته ياسميناً حقيقياً فلم أجده! ولم تكن تلك الزهرة سوى شبيه بالياسمين السوري وليست هو أبداً، ولا تسأل عن صدمتي وحزني.

ابتسمنا لها جميعاً، وقمنا بتصوير الزهور قرب الشاي بفرحة، ونشرنا الصور على مواقع التواصل؛ لكونها قريبة جداً من أزهار الياسمين في بلادنا، وقد أنعشت برؤيتها أرواحنا وأشعلت الذكريات، لكنها في الحقيقة زادت من أحزاننا وذكَّرتنا بما فقدناه في بلادنا، لكننا أظهرنا الفرح كما يفعل السوريون في كل مكان ليتمكنوا من الصمود.

بالتأكيد، لا يشعر السوريون بالفرح بالعيد في الغربة مهما بدت الأماكن جميلة ومهما أظهروا أنهم سعداء؛ لأنهم ببساطة فقدوا كل معنى للعيد، وغاب جماله مع من غاب من أحباب لهم تحت التراب، أو في ظلام المعتقلات، أو من فرَّقتهم عنهم ظروف الهجرة، لكنهم يحاولون فقط من أجل أن يمنحوا أطفالهم شيئاً من الفرح والبهجة.

لقد قالت لي جارتي السورية وهي تطلب استعارة الفرن الكهربائي الخاص بي، إنها تصنع مع ابنتها الحلويات السورية لتعيد للعيد بهجته، ولأن الأطفال الصغار في عائلتها يجب أن يعرفوا طقوسنا السورية في الأعياد؛ حتى لا يكونوا غرباء عندما يعودون إلى بلادهم ولا ينسوها مهما طالت أيام البعاد والغربة؛ بل يعرفون عنها أشياء جميلة جداً.

في الحقيقة، لقد شعرت بالتقصير وبالغبطة نحوها، وتمنيت لو كنت أملك تلك الروح التي تملكها؛ لأستعيد ذكريات سوريا بفرح، لكن الذكريات الجميلة أصبحت تزيد من آلامي فأهرب منها، ولا أرغب في أن تعود لي حتى الذكريات الجميلة؛ لأنها ستعيد معها شعوري بالوحدة والغربة والفقد.

سأكتفي هذا العيد بأن أُعِدَّ لنفسي بضعة كتب أبدأ في قراءتها بهدوء، وربما أجلس مع نفسي طويلاً لأفكر وأكتب، أو أجلس أمام البحر بصمت كما تعودت، ثم أنتظر أن تمر أيام العيد دون ذكريات، ودون آلام، ودون دموع.

لن أصنع حلويات العيد هذا العام أيضاً؛ لكيلا تعود الذكريات المؤلمة أولاً، وحتى لا أصنع لي ذكريات جميلة في إسطنبول فأتألم لفقدها مرة أخرى لو كُتبت لي رحلة هجرة جديدة.

ربما لا يملك الكثير من السوريين ما أملكه من حرية في اختيار الطقوس التي أودُّ أن أعيشها في العيد، فأغلب الأسر التي لديها أطفال صغار مجبَرون على إظهار البهجة والفرح وإعادة الطقوس السورية، لكنني لن أفعل.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
عبير النحاس
كاتبة سورية
تحميل المزيد