فِي قَلبي رجلٌ علّمني أنَ الحامد لربّه الشاكر لنعمِه، يكون مُطمئنَ القلبِ، قريرَ العينِ، بينَما الناكر لنعمِه، يكون شارداً عَن شُكره، جاحداً عَن فَضلهِ، فالحمدُ للهِ فضلاً وحبّاً. في قَلبي رجلٌ علّمني أنَّ الحَياةَ الدنيَا دارُ شَقاء وبَلاء، وأنّ السَخط عَلى المَقدور، يُجزعُ صَاحبهُ، وأنَّ المُقرّ عَلى المَقدورِ يُبهج صاحبهُ.
في قلبي رجلٌ أخبَرني بأنَّ رزقي مَقسومٌ، وَلن يَسبقني إليه أحد، فمَا كانَ لي سَيحضر إليّ رُغماً عني، وَما كانَ لغيري لَن أظفرَ بهِ ببَأسي، وأن لا أنظُر لِمن قُسمَ لهُ رزقاً أكثَر مني، بَل انظُر لِمَن قُسمَ لهُ أقَل مني، وأنَّ المُؤمن مَن لا يَخشى عَلى فقرٍ أصابهُ، أو نَقصٍ نابَ إليه مِن زوجٍ أو ولدٍ أو عملٍ أو جاهٍ؛ لأنه مدركٌ بأنَه لَن تموت نفسه حتى تستكملَ رزقها.
في قلبي رجلٌ علّمني أنَّ برَّ الوالدينِ مِن أفضَل العباداتِ وأعظَم القُربات، وأحبّ الأعمَال إلى اللهِ بعَد الصَلاة فِي وَقتهَا، حيثُ قُرنت بِعبادةِ اللهِ وتَوحيدهُ، وعُقوقهمَا منَ أكبرِ الكَبائرِ، وأقسى المَظاهر. علّمني أبي بأنَّ تمام التقوَى أن تصنعَ البرّ، وَتمنعَ الشرَّ، فمُصاحبةُ أهلِ الخيرِ أجدَى، وَمُجانبة أهلِ الشرّ أنجَى، والتَقوى كِمثل مِشكاةٍ فِيها مِصباح، تُنيرُ قلبَ المؤمنِ، فتكُون خير الزادِ للفوزِ في الجنَة، فتُيسّر أمورهُ، وتُفرَج كروبهُ، وَتمنحهُ السَداد في الرأي، وَالرشادَ في البَصيرَة، ويُكرمهُ الله بحسنِ العَاقبَة.
في قلبي رجلٌ علَمني أنَّ أفكَاري هِي التي تُحدد مَصيري، ولكَي أدير عَجلة حَياتي؛ لَا بدَّ أن أتخذَّ قرَاراتي باتزَان أفعَالي والتي هيَ وَليد أفكَاري. في قلبي رجلٌ علّمني بأنّ هِبة الحَياة للعَبدِ في ذَاتها نِعمة، فالسَعادة والسَكينة، وَالشَقاء وَالقَلق ينَبع من خَيار أنفسِنا، فَحياةُ الإنسَان كَما السَائل الذي يتلوّن بِلونِ الإنَاء الذي يَحتويه، فمن رَضيَ فلهِ الرضَا، ومن غَضب فلهُ الغَضب.
في قلبي رجلٌ علّمني أنَّ طَريقَ الحقّ ظاهرٌ، وطريقَ الضَلال غائرٌ، وَمكائدَ الشيطان وحبائلهُ رذيلَة، وإصلاح النفسِ لا يكونُ بإبطانِ عُيوبها، ولَا كتمانِ سَوءتها، إنّما تَطهيرُها مِنَ القلبِ والجَوارح، فالله لا يهب الحكمَة والعلمَ إلا مَن سارَ طريقَ الهدَى.
في قلبي رجلٌ علمّني أنّ مَقاليد أمُور الخَلق، وَتصاريف أقدَارهم بَيد العَادل جَلّ وعَلا، فهوَ البَاسط وَالقَابض للخَير، يَرزق مَن يشَاء، ويصرفُ عمّن يشَاء، فحقيقةُ الرضَا بقضَاء الله وَقدره تَكمنُ في المَنازل العَصيبة، وأنّ الراضِي بقضَاء الله، جَازمٌ ومُتيقن بأنه لا تبديلَ لِكلماتِ الله، ولا رَادّ لحُكمه، وأنّه مَا شَاء الله كَان، وَمَا لَم يَشأ لم يكُن، فالرضَا بالقَضاء مِن أسبَاب السَعادة، والسخَط عَلى القَضاء من أسبَاب الشَقاوة.
في قلبي رجلٌ علّمني أنَّ عَباءة التَقليد وَبَطالة العُقول ضالّة مُستترَة، تَفرض عَلى صَاحبها الطَاعة العَمياء، واستيرَاد البَدائل مِن الأفكَار، وأنّه لا توجد أحَداث عَبثية في الحَياة الدنيويَة، فكل لِقاء تُصادفه إمّا لِخيرَة اختَارها الله لكَ فكانَ وُجوده فَضلاً عَليك، وَغيرهم مَن كانَ لقاؤهم دَرساً أثقلَ كَواهلنا فأنضجَنا خِبرة وَفطنَة، وفي كِلا الأمَرين، أرسَلهم الله في مَسارنا لحكمةٍ وهدايةٍ.
في قلبي رجلٌ علّمني أنَّ هُناك أشيَاء لا نُدرك حَقيقتها إلا بَعد فَوات الأوان، وَيُمكنها أن تُغيرَ الطَريقة التي نَنظرُ بها إلىَ العَالم، فتَزيدنا قُوةً وإصرِاراً، وأنَّ مِن تَمام المُروءة مُجاوَرة الأخلّاء، ومُباعَدة الجُهلاء، وأنّ استدَامَة العَبد فِي فِعلِ الخَير مَرضَاة لله في الإقدَام علَى فعلِ الحَسنات، والإحجَام عَن فعلِ السيَئات، والتَوبةِ عندَ العِصيان، والرجُوع إلى اللهِ باستِجابةٍ وَخُضوع، واستِكانةٍ وخُشوع.
في قلبي رجلٌ علّمني أنَّ التَواضُع سِمةُ أهلِ العلمِ والفهمِ، أودعَها اللهُ فِي نُفوس الأنبياءِ، وَوَرثَها العُقلاء والنُبلاء، وَأمَا الخُيلاءِ والكِبريَاء مَا همَا إلا سِقام وخيَم، دبَّ بينَ الناس كالنارٍ فِي الهَشيم، وَما إن بثَّ سُمومهُ في المُجتمعِ إلا وقَد تَصدّعت بُنيانُه، وتهَشّمت أركَانه، وتَشقّقت عمدَانه.
في قَلبي رجلٌ علّمني أنَّ العلم بحرٌ لا يرتَوي شاربهُ، ولا يُنالُ براحةِ الأجسامِ، ولا يُكسبُ إلّا بالجدّ والكدّ، فهوَ علاجُ للنفوسٍ، وسلامةٌ في الخَلاء ومُعافاةٌ منَ الخَواء. في قَلبي رجلٌ يُرافقني اسمه بعزّ وافتخَار، ويُسقيني الحبَّ والكرامة بقوّةٍ وإصرارٍ، فِي قَلبي رجلٌ كَلّلهُ اللهُ بالهَيبةِ وَالوَقار، وَعلَمنِي العَطاءَ دونَ انتظَار، في قلبي رجلٌ أثارَ العطرَ في نَفحتي، وغَرس الأمَل فِي جُعبَتي، فِي قَلبي وطنٌ يَحميني، وَصدرٌ يَؤويني، فِي قَلبي أبِي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.