لم يقرأ رواية في حياته، لا علاقة له بالميدان الأدبي لا من قريب ولا من بعيد، لكن الرغبة الجنونية في كتابة رواية تملّكت روحه، فهل سينجح في مسعاه؟
عبدالله فرفار أو حرفش، عنصر في جهاز الأمن الوطني، اعتاد طوال حياته على ملاحقة ومراقبة المطلوبين وكتابة التقارير عنهم، تجبره حادثة أليمة على التقاعد من عمله بعدما فقد إحدى ساقيه وعوضها بساق خشبية، ولأنه يعيش وحيداً بلا زوجة أو أولاد، سيطرت عليه فكرة كتابة رواية تملأ فراغه وتعوضه عن الشعور العارم بالنقص الذي انتابه بعد الحادث.
نعم، هو لم يقرأ رواية أبداً، واقتصرت علاقته بالشأن الأدبي على مراقبة الأدباء والمثقفين الذي يشكّلون إزعاجاً للسلطة، لكن مَن قال إنه لن ينجح؟ ألم يحقق بائع ورد بنغالي يعمل في مدينة نيس الفرنسية نجاحاً باهراً بعد تأليفه رواية عن مهاجرة إفريقية كانت تزور محله بانتظام، نفس الشيء بالنسبة لبائعة الهوى التائبة في العاصمة الفيتنامية سايغون؟
يقرر عبدالله إذن أن يبدأ رحلته الإبداعية منطلقاً من مقهى "قصر الجميز"، حيث يجتمع الروائي المعروف (أ.ت) بمريديه ومتملقيه، في محاولة منه للاستفادة من تجربة الروائي، كما يحاول فتح صفحة جديدة مع (ر.م) المسيحي صاحب المكتبة الذي عانى لمدة طويلة من ملاحقات عبدالله ومضايقاته المرتبطة بعمله في جهاز الأمن الوطني.
وبالفعل، تتوطد علاقة حرفش بالروائي (أ.ت) الذي يحدّثه عن الأفكار الصالحة للتوظيف روائياً، وقد شبّهها الروائي باليرقات، ويبدأ عبدالله في اختيار الشخصيات الممكن استخدامها في عمله الأول، كزوج عمته عاشق التمثيل، وحفّار القبور المهووس بتشجيع فريق كرة القدم، لتتخذ الأحداث مساراً آخر بعد اختفاء (أ.ت) باحثاً عن عزلة تُمكّنه من تأليف رواية جديدة، ليجن جنون عبدالله المتأكد من سرقة الروائي المعروف لأفكاره أو "يرقاته".
هي إذن رواية "صائد اليرقات" للروائي السوداني أمير تاج السر، صدرت طبعتها الأولى عام 2010، ووصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) دورة 2011، والتي فازت بها رجاء عالم ومحمد الأشعري مناصفة عن عمليهما "طوق الحمام" و"القوس والفراشة" على التوالي.
انطلاقاً من هذه النبذة المختصرة التي شكّلت النواة الصلبة للعمل يمكننا تشريح أبرز الخطوط السردية التي بنى عليها أمير تاج السر حبكة رواية "صائد اليرقات" على الشكل التالي:
علاقة رجل الأمن في الدول العربية بمجتمعه:
ترصد رواية "صائد اليرقات" العلاقة الشائكة والمضطربة التي تجمع عبدالله فرفار بجيرانه ومعارفه، علاقة تتأرجح بين الخوف والكراهية، وهذا راجع بالأساس إلى السلطة المطلقة التي يتمتع بها رجل الأمن في الأنظمة الشمولية المعتمدة على البطش والترهيب، ويتجلى ذلك في أمثلة صوّرها الكاتب بدقة ساخرة عن تعامل الخياط (خ.ر) وصاحب المكتبة (ر.م) والروائي (أ.ت) مع عبد الله، والمقارنة بين مرحلتي "ما قبل التقاعد الإجباري" و"ما بعده".
طقوس الكتابة:
تعتبر الطقوس التي يوظّفها الأدباء في تأليف أعمالهم إحدى الجزئيات الأكثر إثارة للجدل في عوالم الكتابة وأسرارها، ولأننا أمام عمل ساخر من أول كلمة فيه حتى آخر حرف، فقد جاء الكلام عن هذه الطقوس مضحكاً ومنتزعاً لقهقهات القارئ، من خلال الحديث عن الكتابة بعد التجرد من الملابس، وعلى النقيض من ذلك بملابس السهرة، كتابة رواية في مرحاض عمومي مخصص للمجنّدين أثناء تأدية الخدمة العسكرية، الاختباء في كشك حراسة ليلية للكتابة، إلخ..
استسهال الكتابة:
يقدم أمير تاج السر شخصيته الرئيسة "عبدالله فرفار" كنموذج لما تعرفه الساحة الأدبية من استسهال البعض للصنعة الروائية، فرجل الأمن المتقاعد لم يقرأ رواية أو كتاباً في حياته، وباستثناء التقارير الأمنية لم يسبق له أن كتب شيئاً، والطريف أنه حاول كتابة عمله الأول على شاكلة هذه النوعية من التقارير، قبل أن يستفيد من توجيهات ونصائح (أ.ت) في البحث عن الشخصيات والحبكة المناسبة، وقد تكون في هذا العرض إشارة خفية إلى ظاهرة تحوّل الكتابة إلى "مهنة مَن لا مهنة له".
امتلاء الساحة الأدبية بالمتملقين والمتطفلين:
على علاقة بالنقطة السابقة، يفضح أمير تاج السر (معتمداً على أسلوب يجمع بين العفوية والسخرية اللاذعة) واقع الساحة الأدبية المليئة بالانتهازيين، من خلال تصويره للحلقة المجتمعة في مقهى "قصر الجميز" حول الروائي المعروف (أ.ت)، خاصة شخصية الشابة التي لا نعرف لها اسماً سوى (س) وأنها صاحبة سروال الجينز الضيق، والتي نشرت روايتها "لحظة حب" واحتفى بها (أ.ت) بحذر، رغم بوحه لعبدالله بأن عملها ليس بتلك الجودة، مفسراً رأيه بقوله: "اسمع يا فرفار، موضوع اليرقات وما شابه ذلك ينطبق عليك لا على الفتيات الجميلات واسعات العيون. يرقة الفتاة تعادل حشرة كاملة عندك. هذا ما نسميه مؤازرة الجمال".
التناقض بين معاناة مهنة "أكل العيش" وشغف الهواية:
لعلها واحدة من أكبر المشكلات العويصة التي تواجه الفرد في المنطقة، من خلال التناقض الصارخ بين المهنة التي يزاولها الفرد بلا رغبة أو حب، وبين الهواية التي يمارسها عن اقتناع، ويتجلى ذلك في شخصية مدلّك فريق كرة القدم، زوج العمة (ث) الذي بلغ به الشغف بالتمثيل حد الهوس، لكن إصراره المثير للإعجاب (والمصور بطريقة هزلية) قاده إلى اقتناص أدوار هامشية في مسرحيات قام بإفسادها بخروجه المضحك عن النص، ولم يكتف بذلك، متعاقداً مع شركة مشروبات لتصوير إعلان لمنتوجها.
جرّب الكاتب في روايته عدداً من التقنيات السردية، باعتماده على ضمير المتكلم من خلال شخصية عبدالله فرفار، وتوظيفه لتقنية "الرواية داخل الرواية" من خلال عرضه لفصول من رواية (أ.ت) "وعلى سريري ماتت إيفا" (والتي كانت أول رواية يقتنيها عبدالله خلال اشتغاله على عمله الإبداعي الأول) داخل مجرى الأحداث، نفس الشيء بالنسبة لمحاولة رجل الأمن المتقاعد الأولى والتي كتبها بنفس طريقة كتابته للتقارير الأمنية قبل تقاعده.
سلك أمير تاج السر في رواية "صائد اليرقات" مسلكاً مغايراً لما انتهجه في مجموعة من أعماله السابقة، صحيح أن أحداث الرواية تدور في السودان، لكن الملاحظ هو ابتعادها عن اكتساب أية خصوصيات مرتبطة بالمجتمع السوداني كما هو الشأن بالنسبة لروايات أخرى للكاتب، ما يعني أن تاج السر تعمّد إسقاط أحداثها على كل دول المنطقة.
وهكذا يمكننا القول إن أمير تاج السر قد أمسك بيد القارئ في رواية "صائد اليرقات" وأدخله إلى عوالم الكتابة الروائية وأسرارها، تقنيات السرد، اختيار الشخوص الغنية والمناسبة للاشتغال عليها، في قالب ساخر وظّفه الكاتب لتوجيه نقد لاذع إلى فئة من المتطفلين المستسهلين لفعل الكتابة، يحولونها إلى أداة للكسب والشهرة، بغض النظر عن المحتوى والمستوى الفني لأعمالهم، مطلقاً ناقوس الخطر حول الحال الذي آل إليه الإبداع الأدبي في الوطن العربي، مع المطالبة بالنهوض به قبل فوات الأوان، وما المظاهر العجيبة التي صرنا نراها اليوم في معارض الكتاب العربية (بهرجة في حفلات التوقيع، كتب فارغة المحتوى والمضمون مع عناوين صادمة، ركاكة في الأسلوب وضعف فاضح في اللغة، اقتحام "الفاشينستا" لعالم الكتابة) إلا دليل على صحة ما قاله تاج السر وبُعد نظره.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.