لم يكن إدراج الدراما في سياسات العمل الإعلامي الرافض للانقلاب محل رفض أو امتعاض بل وعلى العكس كان وما زال وسيبقى مطلباً رئيسياً لما لها من تأثير ودور في صناعة وتشكيل الوعي المجتمعي سواء كان ذلك من خلال إحياء قيمة أو محاربة ظاهرة سلبية مستحدثة في سلوك المجتمع أو حماية ثقافته ومنظومته الأخلاقية.
مع مرور ثلاث سنوات من العمل الإعلامي ظهرت بوادر أعمال درامية على الشاشة لاقت استحسان من شاهدها وتعالت الأصوات التشجيعية لتكرار التجربة الوليدة والاستمرار الذي سيدفع بالضرورة نحو تطور الصناعة وخلق كوادر قادرة على إتقان العمل في كل جوانبه، كما لم ينشغل أحد بالوقوف على ما يمكن رصده من أخطاء متعلقة بالسيناريو أو الأداء.
أتت العواصف بما لا يشتهيه الناس مع بداية الموسم الدرامي الثاني الذي بدا عليه شكلاً وقد توفرت له ميزانيات جيدة بالمقارنة بالموسم الأول وانضمام كوادر فنية ذات خبرة وأخرى شابة حديثة الظهور والحضور، وبدا على الأعمال نوع من العشوائية والتخبط الذي يفهم معه هبوط سهم المحتوى والرسالة والأداء في بعض الحلقات والأعمال.
بعيداً عن السمة المشتركة التي جمعت الأعمال في مساحة ضعف سيناريو يمكن للمشاهد العادي دون أن يبذل مجهوداً ضخماً أو يخصص وقتاً طويلاً أن يرصد كماً ليس بالقليل من مظاهر تلك العشوائية والتخبط واستنباط استخدام الفهلوة في التجربة الوليدة، ومن بين تلك المظاهر:
١- اختتم الباشا أحد مشاهد نقرة ودحديرة بجملة (علشان نخلص البلد من ولاد عبدالواحد الجنايني) قاصداً الحكم العسكري واصفاً إياهم بأنهم أبناء الريس عبد الواحد (شخصية الجنايني في فيلم رد قلبي والذي عُين أولاده في الجيش والشرطة بواسطة الباشا صاحب القصر ثم شاركوا في انقلاب ١٩٥٢)! جملة تحمل إهانة وتقليلاً لأصحاب تلك المهنة وأسرهم ودعوة للعنصرية والسخرية والتحقير على شاشة تدعو للعدالة والمساواة وبطولة فنانين تشهد له أعمالهم بالفن وليس التمثيل!
فإذا كان للحبكة والإغلاق الكوميدي للمشاهد بد فهناك عشرات وعشرات الجمل المضحكة دون إهانة أحد.
يستحضرني هنا حديث وزير العدل الأسبق محفوظ صابر والذي كان يحمل نفس مضمون خاتمة المشهد ولكن مع عمال النظافة ورغم تراجعه واعتذاره إلا أنه تمت إقالته من قبل نظام السيسي!
٢- ظهور ألماظية في مسلسل نقرة ودحديرة بلحية في مشهد كوميدي ساخر وقد تقمصت دور داعشي تثير الرعب في قلوب المتواجدين معها في المشهد والذين يعبرون عن خوفهم بشكل كوميدي أفقد المشهد ما يمكن أن يحمله من معنى وإظهاره في مساحة السخرية!
٣- تناول عمل بوست سياسي في حلقة قصة شاب ألقي القبض عليه ليلة عقد قرانه وظهر في الحلقة فتاة ترتدي ملابس منزلية بدون طرحة قامت بدور خطيبة الشاب وظهر على كلماتها بشكل فج أنها غير مصرية ولا تجيد لهجتنا! كما لم يخرج من قام بدور والد الفتاة عن كونه طالباً يقوم بتسميع ما كلفه به الأستاذ!
بموجب المحتوى فإن فتاة محجبة (كما ظهر في مشهد عقد القران) تلتقي خطيبها قبل عقد القران بملابس المنزل وكاشفة عن شعرها.
فما الذي يمكن أن أفهمه من هذا المشهد؟ فإذا كنت تتحدث عن فتاة لا ترتدي الحجاب فهذا مقبول من باب احترام التعددية الثقافية في مجتمعنا أما أن يكون المشهد بهذا الشكل فلا يفهم منه إلا عشوائية، هذا بخلاف الجانب الفكري والثقافي للقائمين على العمل الذي يعتبر الحجاب من أدبياته وكان له دور كبير في نشره في المجتمع المصري.
٤- سكتشات المحروسة يظهر أحد أبطال العمل مرتدياً سلسلة معدن في رقبته، وتتناول الاسكتشات مشكلات مجتمعية دون أي رؤية لحلها يتضمنها العمل بشكل يجعل من العمل أداة ترويجية للمشكلة التي يتم تناولها مثل مشكلة نفاق الموظف مع المدير!
أعمال تعرضها قناة مكملين الفضائية المملوكة لجماعة الإخوان المسلمين وصفحاتها على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك (صفحة القناة – MP) جسدت في الأساس انتقالاً عشوائياً لا يتوقف فقط عند انحراف الشاشة عن الرسالة والمسار المعروف عنها بل يمكن أن يتجاوز بإحداث حالة سخط وغضب بين قاعدة القناة الجماهيرية الأساسية التي تتحرك بها في الأساس وربما يصل الأمر كما وصل مع عدد من أبناء الصف الإسلامي الذين أعلنوها صراحة على مواقع التواصل الاجتماعي.
إدراج الدراما بهذا الشكل العشوائي في خريطة العمل التلفزيوني دون التزام بمبادئ وقيم تميز الصف القائم على القناة يفقد الرسالة معناها وتصبح بلا أثر بل ومن الممكن أن ينتج عنها ضرر في مقدمته إظهار الصف كما يصفه إعلام السيسي (تجار دين واللي بيكسبوا بيه بيلعبوا بيه).!
كما أن التعلل بحاجة الشاشة للخروج من دائرتها المغلقة والانفتاح على باقي طبقات المجتمع المصري لا يصح لأن الانفتاح وإزالة الحواجز لا يأتي بانقلاب الشخص على قيمه التي تميزه وتجعله محل احترام عند المختلفين معه ولا بمظاهر شكلية، فصناعة الوعي وإعادة القيم المجتمعية المفقودة وإزالة الحواجز بين طبقات المجتمع تتم بأعمال درامية تضع الرسالة نصب عينها وتناولها بالواقع وأداء يستطيع أن يخاطب الجوانب التي تحرك الإنسان من داخله وتستحضر فيه الهمة.
واستمرار العمل بهذا السوء سينتج عنه رضوخ صناع هذه الأعمال لمتطلبات وذوق الشارع الذي أُفسد بفعل العدد الذي لا يحصى من الأعمال الدرامية الهابطة والمُسفة التي تحاصر المجتمع على مدار اليوم في كل القنوات الحكومية والخاصة، وأصبح ذلك أحد أهم المشكلات التي تجب مواجهتها بأعمال مضادة تحيي ما فقدناه من قيم وأخلاق مجتمعية.
هذا الطريق الدرامي المسف الذي أفسد العقول وشوه النفوس تتبناه الدولة منذ عدة سنوات وتحدث عنه السيسي متعللاً بأن هذه الأعمال تعبر عن الذوق العام ولا أستطيع أن أفعل شيئاً! بالتأكيد يستطيع تغيير الوجهة ولكنه ودولته هم من يتبنون هذا الخط وإفساد المجتمع لضمان تواجدهم واستمرار حكمهم! فكيف يسير من يحلم بالخير لهذا الشعب في ركب شرير!
أتمنى كمشاهد من القائمين على تلك الأعمال إعادة النظر ومراجعة التجربة للوقوف على نقاط الضعف والقصور لتفاديها مستقبلاً والاهتمام بصناعة وتأهيل كوادر خصوصاً في ظل وجود عدد من الفنانيين الكبار الذين ساهموا في صناعة الثروة الفنية المصرية العظيمة ويعود وجه الدراما المصرية المشرق من جديد كما قال البحر وعبر عنه الوتد وشهدته ليالي الحلمية وأيام ونيس وأولاده وأحفاده وعمو فؤاد وغيره من الأعمال التي جعلت من الدراما المصرية رائدة، اهتموا بصناعة الدراما الهادفة وابتعدوا عن تجارة التمثيل فشتان الفارق بين من يصنع ويشيد أو يرمم قيم مجتمع وبين من يتاجر بما يحقق له ربحاً وليذهب من يذهب للجحيم عبروا عن هموم المواطنين باختلاف توجهاتهم وأنماط حياتهم في إطار قيم المجتمع ومحاسنه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.