وُلِدتُ في بيتٍ ريفيٍّ يحب كرة القدم ويحرص على متابعتها، جميع إخوتي يتنفسون حب الأهلي منذ طفولتهم إلا واحداً غرس بداخله حب الكيان الأبيض بميت عقبة منذ الصغر، أسرتنا بسيطة.. أبي يرفض المستديرة دائماً ويقف حائلاً أمام إخوتي لممارستها، حينما كنتُ طفلاً لم أبلغ السابعة من عمري شاهدتُ إخوتي يرفضون قرار أبي بعدم ممارسة كرة القدم نهائياً، يرفضون بلطفٍ بليغٍ ويكتمون في دواخلهم أنَّةً مكتومةً لمنعهم من أبسط الأحلام لشباب ريفيٍّ.. ممارسة كرة القدم، فيما بعد عرفتُ معنى هذه الأنَّة حين وقف أبي وسخرية القدر حائلَيْن أمام انضمامي لقطاع الناشئين بنادي (المقاولون العرب)، كان حلماً أن أمارس الكرة وأركض بها.. لكنه تبخّر حين قال والدي بصوتٍ أجشٍّ: لن أدعكَ تقوم بهذه المهزلة!
اكتفيتُ وإخوتي بمشاهدة المباريات عبر التلفاز، في باحةِ بيتنا كان يستقرُّ، صغيراً كان أول تلفاز ابتاعه أبي، وحوله كان يتحلَّقُ شباب حيِّنا وأصدقاء إخوتي لمشاهدة المباريات المهمة، أذكر نقاشات الجميع بشأن مباراة القمة الشهيرة التي فاز الأحمر فيها على الأبيض بسداسية مقابل هدف، تحضرني الآن صورة الزملكاويّ الوحيد في بيتنا منزوياً في ركنٍ قصيٍّ يجهش بالبكاء؛ لأنّ فريقه مُنِيَ بهزيمةٍ كارثيةٍ، الدموع تسيل من عينيه فيما سمّاه هو بالانتماء وسمّاه والدي ضرباً من ضروب السَّفَه؛ لأنّ أبي شديد الطّباع يرى في أمور الكرة عامةً ضياعاً للوقت وإهداراً للجهد والمال وكل شيء، أبي رجلٌ ظلمه الدهر كثيراً فأحبَّ ألا ينساق نحو أي خادعٍ لأحلامه!
بعد مباراة السداسية بنحو أربع سنواتٍ، كنا جميعاً حول المائدة والقناة الأولى تبثُّ خبراً غريباً من نوعه، مِصر تخرج خالية الوفاض من سباق استضافة المونديال، أخبرني أخي حينها بكل التفاصيل، تقدمتْ المحروسة بملف لاستضافة كأس العالم 2010 مُتحدِّيةً الملف المغربي وملف جنوب إفريقيا الذي رأسَه زعيمها الخالد نيسلون مانديلا، اعتمدنا في ملفنا على الشعارات الكاذبة التي اعتدنا عليها، زخرفةٌ غريبةٌ ومزيفةٌ زيّنتْ ملفّنا لتنظيم المونديال، سبعة آلافٍ من سنوات الحضارة وأهرامات الجيزة وأبوالهول ومنارة الإسكندرية لم يؤدوا الغرض كافياً أمام اهتمامٍ مغربيٍ على أعلى المستويات خذله الاتحاد الدولي لكرة القدم بعد أن منح حق التنظيم لبلاد مانديلا.. وأعطانا صفراً كبيراً لا يزال عالقاً في أذهان المصريين إلى اليوم، يتناقله الكبار ويعرف الصغار بأمره، فكأنه حكاية ألف ليلةٍ وليلةٍ تأبَى أن تندثر تحت تراب الزمن وتعاقب الأيام.
استقبل المصريون الخبر كالصاعقة، أصابتهم خيبةُ الأمل في مقتل، ودارتْ بهم رحى التأويلات صوب كل ناحيةٍ، ولأننا شعبٌ أدمَنَ نظريةَ المؤامرة قال أرباب الإعلام حينها: إن الأمر مدَبَّرٌ بليلٍ كي يبعدونا عن تنظيم المونديال، وإنّ ملفّنا كان الأولى بالفوز لكنّ العالم خذل المصريين نُصرةً لجنوب إفريقيا، جُلّ الشعب لم يكذّبْ هذا الهراء، وبقيتْ فئةٌ قليلةٌ على يقينٍ بأنّ هذا الصفر نتاجُ فساد رياضيٍ وإداريٍ كبيرٍ سيلحقه أصفار أخرى إن لم تحِن ساعة التغيير، هذه الفئة الصغيرة هي التي أطلقتْ شرارة الثورة المصرية الخالدة فيما بعد!
بعد اثنتي عشرة سنة على فضيحة صفر المونديال، وبعد ثمانيةٍ وعشرين سنةً من السنوات العجاف غِبنا فيها عن كأس العالم، ذُقنا حلاوة الصعود أخيراً للمحفل العالمي بعد طول عناء، كانت القرعة مُنصِفةً جداً حين أوقعتنا في أسهل مجموعات المونديال على الإطلاق إلى جانب الدب الروسي وأبناء الأوروغواي والجار السعودي، لكننا ودّعنا المونديال من الباب الضيق بصفرٍ كبيرٍ لا تقل مرارته عن الصفر الأول الذي أوجعنا قبل اثنتي عشرة سنة.
لعبنا في مونديال روسيا ثلاث مباريات لم نعرف فيها للفوز عنواناً أو التعادل على أقل تقدير، خسرنا الثلاث بحصيلة ستة أهدافٍ استقرّتْ في شباكنا ولم نحرز إلا هدفين! هذه المرة أنا واعٍ لكل ما يدور حولي، لا أحتاج لشرح أخي كي أفهم، الأمر واضحٌ لا يحتاج إلى التفكير العميق، نحن أمام كارثةٍ كرويةٍ وإداريةٍ أطاحت بنا خارج المونديال من الباب الصغير، أزمة صلاح الإعلانية مع اتحاد كرة القدم لم تكن الأخيرة، أعقبتها أحداثٌ عِظامٌ تناوب المسؤولون فيها على دور البطل كل مرة، ولذا كانت الخسارة مُفجِعةً.
الأمر لا يتعلّق بمباراةٍ أو بطولةٍ، إنما يتعلق بأحلام شعبٍ وانتماءٍ حقيقيٍ لوطنٍ مسلوب الإرادة، هذا الأمر يُشبه كل القصص الحزينةِ التي مللْنا سردها داخل سراديب الوطن، يُشبه كل النهايات الأليمة التي أوجعتنا في هذا البلد، يُشبه عُرّيَّنا على ضفاف الثورة التي ضاعتْ.. والأحلام الموءودة في لحظة غدرٍ.. والغربة التي سرقتنا دون أن ندري، هذا الأمر ليس كارثةً رياضيةً فحسب.. إنما هو وجعٌ دفينٌ داخل مُواطنٍ قتلَتْه أمواج الغَلاء العاتية ولم يجد مُتنفَّساً إلا في كلمة (جول) لبلاده الحبيبة مصر.
أنا من البلاد التي عيَّرَتْ العالم بسبعة آلافٍ من سنوات الحضارة، وركَنْتْ إلى التاريخ والماضي السعيد مُتكاسِلةً عن فعل أي شيء.. فوجدتْ حاضرها في الدَّرْكِ الأسفل بين دول العالم، ويا للأسف! نحن نحبُّ بلادنا.. بمقدار كل قطرةِ دمٍ تسري في دواخلنا.. بكل نَفَسٍ نتنفَّسُه على أرضها.. بحقِّ كل أصيلٍ نال الشهادة في سبيل حمايتها، لكنّنا أبداً لن نُعِينَ فاسداً أو ظالماً فيها، ولن ننسَى أبد الدهر أننا حِزْنا على صِفْرَيْن كبيرَيْن فيما يخصُّ الشأن الرياضي.. مثل كل الأصفار التي وصمتْ بلادنا بالعار إلى اليوم!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.