النتيجة الأوضح للانتخابات البرلمانية التركية هي فوز العدالة والتنمية وتقدمه بفارق كبير جداً -يكاد يصل للضعف- على أقرب منافسيه للمرة السادسة على التوالي منذ 2002، وهي نتيجة كبيرة بكل المقاييس ولعلها مفاجأة بالنسبة لحزب يحكم منذ 16 عاماً بشكل منفرد ومتواصل.
لكن الجزء الثاني المكمّل لهذه النتيجة هو تراجع نسبة التصويت له بشكل ملحوظ من 49.5٪ إلى %42.5 وخسارته للأغلبية البرلمانية التي حافظ عليها منذ 2002 بهامش بسيط، حيث حصل وفق النتائج الأولية على 295 مقعداً من أصل 600 في البرلمان الجديد. كما أن الحزب رفع نسبة التصويت له في 12 محافظة فقط، تقريباً هي مناطق الأغلبية الكردية -مقابل تراجع الشعوب الديمقراطي فيها- بينما تراجع تقريباً في كل المحافظات الأخرى في عموم تركيا.
ولئن كان ذلك التراجع لا يغطي على الانتصار الكبير الذي حققه الحزب، إلا أن تقييم فوزه لا يستقيم أيضاً دون التطرق لهذا التراجع الواضح وأسبابه المحتملة، وفي مقدمتها:
أولاً: التحالفات الانتخابية التي ضمنت لبعض الأحزاب الصغيرة دخول البرلمان حتى ولو لم تتخطَّ بمفردها العتبة الانتخابية المتمثلة في نسبة 10٪ من أصوات الناخبين في عموم تركيا؛ إما بالانضمام الرسمي لأحد التحالفين أو بالتحالف الضمني من خلال الترشح على قوائم أحد الأحزاب الكبيرة.
ذلك أن ناخبي تلك الأحزاب الصغيرة الذين كانوا يصوّتون للعدالة والتنمية لئلا تهدر أصواتهم فضّلوا – أو فضّل جزء منهم على الأقل – التصويت لأحزابهم. وفي مقدمة هؤلاء أنصار حزب السعادة الذين صوّتوا لمرشحهم للرئاسة بنسبة 0.89٪ بينما صوّتوا لحزبهم بنسبة 1.35٪، أي أن جزءاً مهماً منهم صوّت لأردوغان في الانتخابات الرئاسية بينما اختار حزبه في البرلمانية.
ثانياً: ثمة انطباع سائد بتراجع أهمية البرلمان، أو بصيغة أدق أهمية قوة الأحزاب المختلفة في البرلمان مع تطبيق النظام الرئاسي، باعتبار أن الرئيس المنتخب سيشكل الحكومة بغض النظر عن مستوى تمثيل حزبه في البرلمان.
ولذلك فلم يغامر الكثيرون في التصويت للرئاسيات مختارين أردوغان، بينما شعروا – فيما يبدو – بأريحية أكثر في البرلمانيات، حيث إن تراجع العدالة والتنمية لم يعد يشكل خطراً متعلقاً بالفوضى أو الفراغ أو البدائل، كما حصل مثلاً في انتخابات حزيران/يونيو 2015.
ثالثاً: استمرار الحزب في الحكم لمدة 16 عاماً متواصلة وما تتركه هذه الفترة الطويلة من سلبيات، بعضها متعلق بفتور أو تكاسل أو ترهُّل بدرجة أو بأخرى في الحزب الحاكم، وبعضها يدور حول تراجع وتيرة الإنجازات مع الوقت، وأخرى مرتبطة بصعوبة إقناع الناخبين خصوصاً من فئة الشباب باعتبار الرغبة المتزايدة في التغيير لدى فئة الشباب تحديداً. ولعل كل استطلاعات الرأي كانت قد توقعت تراجعاً في نسبة "العدالة والتنمية" في هذه الانتخابات، وإن كانت اختلفت في النسبة المتوقعة.
رابعاً: ثمة فئة داخل صفوف العدالة والتنمية بات يصطلح على تسميتهم بـ"المستاؤون" أو "الممتعضون"، لهم تحفظات على مواد التعديل الدستوري الخاص بالنظام الرئاسي (وقد صوّتوا ضده العام الفائت) أو على المركزية الواضحة في إدارة البلاد، أو على ما يعتبرونه تهميشاً وإقصاءً لبعض الشخصيات والقيادات التي لعبت دوراً مهماً في تجربة العدالة والتنمية. هذه الفئة التي لا تشكل تياراً منظماً ولا يمكن توقع نسبتها يبدو أنها فضلت توجيه "رسالة" ما خلال هذه الانتخابات عبر الشق البرلماني منها.
خامساً: كان ثمة تأثير محدود للحزب الجيد الذي دخل الحياة السياسية التركية حديثاً، حيث أظهرت النتائج التفصيلية في مختلف المحافظات والمناطق أنه سحب من رصيد الحركة القومية والشعب الجمهوري بشكل واضح، ولكن أيضاً من العدالة والتنمية بدليل نتائجه – مقابل تراجع الأخير – في بعض المناطق، وفي مقدمتها مانيسا وأرضروم وطرابزون.
سادساً: التأثير الأكبر على العدالة والتنمية، فيما أظهرته النتائج التفصيلية، كان لحليفه الحركة القومية الذي حافظ على نسبة تصويته ورفع من عدد نوابه في البرلمان، رغم التوقعات بتراجع كبير له بفعل انشقاق الحزب الجيد عنه (والذي بدوره حصل على %10 من الأصوات).
التقدم الملحوظ للحركة القومية في المحافظات التي تراجع فيها العدالة والتنمية تقول بما لا يدع مجالاً للشك بأن الأول قد سحب من رصيد الأخير في هذه الانتخابات نسبة مهمة. ويبدو أن تحالف الحزبين وتقاربهما في الفترة الأخيرة والتناغم بين خطابيهما وأيديولوجيتيهما فضلاً عن مواقف الحركة القومية وزعيمها دولت بهجلي مؤخراً قد رفعت الحرج عن طيف من الناخبين للتصويت للأول مكان الثاني في بعض المناطق.
وبالنظر إلى أن طيفاً مهماً من أنصار الحركة القومية قد صوّتوا لأردوغان في الرئاسيات، يمكن القول: إن التحالف معه قد أفاد العدالة والتنمية -وأردوغان- في الانتخابات الرئاسية ولكن أضر به جزئياً في البرلمانية.
ولكن ينبغي مع كل ذلك الإشارة إلى أن العدالة والتنمية قد خسر أغلبية البرلمان بفارق بسيط إذا ما حسب منفرداً، ولكنه حافظ عليها بفارق كبير من خلال تحالف الشعب الذي يجمعه مع الحركة القومية، فضلاً عن تحالفات محتملة قد يقوم بها لاحقاً تحت قبة البرلمان الجديد، وهو ما يؤمّن التناغم المطلوب بين الرئاسة والبرلمان.
وفي حزب يعتمد كثيراً على الأرقام والإحصاءات واستطلاعات الرأي ويولي أهمية كبيرة لرأي الناخب مثل العدالة والتنمية، من الصعب توقع مرور هذه النتائج دون مراجعة دقيقة.
وهي إشارة وردت بوضوح على لسان أردوغان في كلمته ليلة الانتخابات من على شرفة الحزب، حين قال: "وصلتنا الرسالة فيما يتعلق بنتيجة الحزب". وهو ما يعني القيام بخطوات ملموسة بعد استخلاص الدروس المتمثلة في نتائج الانتخابات، لا سيما أن البلاد مقبلة على انتخابات محلية/بلدية في مارس/آذار القادم، بما يجعل هذه المراجعات والاستجابة للرسالة أكثر من ضرورية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.