قال لي: إنكم تحرصون على تعلم اللغة الإنكليزية، قلت له: يعني! فقال لي: ما السبب؟ قلت له: لأنها أصبحت اللغة العالمية الآن لغة التواصل ولغة العلم، قال لي: هذا ليس منطقياً على الإطلاق، إن هذا يكرِّس الإمبريالية والسيطرة الغربية، إن تعلم اللغة الإنكليزية من أهم الأسباب التي تكرِّس فكرة الطواف نحو الغرب، وبخاصة الإمبريالية الأميركية، قال لي: إنكم مثلاً في مصر ماذا تتحدثون؟ قلت له: العربية، قال لي: مَن جيرانكم؟ قلت له: السودان وليبيا وغيرهما من البلدان العربية، قال لي: إن الأكثر منطقية أن تتعلموا لغاتهم ولهجاتهم، وتركيا كذلك فمَن جيران تركيا؟.. روسيا وإيران وقرغيزيا وغيرها، إن الأكثر منطقية أن تعلم هذه اللغة؛ لأن هناك شيئاً يجمعنا وهو الجيرة، فنحن جيران، أو يجمعنا الدين مثلاً فإذا تعلمت التركية أو الماليزية أو غيرهما من اللغات التي يتشاركها العالم الإسلامي، فهذا يكون منطقياً وله وجه سليم في التعلم.
هذا كان حواراً مع أحد الأساتذة الأتراك الذي أحد أهم مبادئه في الحياة هو الوقوف ضد الإمبريالية وأخواتها.
حينما فكّرت في كلامه، رأيت أن كلامه من ناحية المنطق له وجهٌ صحيح، لكن هو ككثير من المسائل المنطقية التي لا تتناسب مع واقعنا؛ لأن واقعنا ليس لنا هو واقع غيرنا، ونحن نحاول أن نعيشه مجبورين، ولذلك كان تعلم الإنكليزية إحدى ضروريات المرء إذا أراد أن يرتقي بنفسه ويتصل بالعالم الخارجي، خاصة ممن لا ينطقون العربية، وعلى هذه الحقيقة، نهرع ويهرع الآخرون لتعلمها، وعلى هذا أيضاً فُتحت أسواق وكان للناس أرزاقٌ ومنحٌ.
لكن إذا عدنا إلى كلمة الأستاذ التركي نجد أن مخالفة هذه القاعدة لم تؤدِّ فقط إلى مخالفة المنطق وإجبار أنفسنا على معايشة واقع ليس لنا، وإنما أدَّت إلى اللهث وراءه، وهذا اللهث كان طبيعياً للسيطرة الغربية المبهرة أمام الضعف العربي والبيئة المتخلفة التي نعيشها.
إننا حتماً لا نقصد بهذا اللهث هو تعلم لغة أجنبية، سواء أكانت الإنكليزية أو غيرها، فمن عرف لغة قوم أمن مكرهم، واللغة الإنكليزية أهم لغة في العالم الآن، فهذا معترف به مقرر مشهود، لكن في حقيقة الأمر إن تعلمنا اللغة لا يقتصر على هذا، إننا مما ورثناه وصنعناه بأيدينا هو التظاهر، فنحن نصنع المظهر ونتقنه إتقاناً لا مزيد عليه دون أن يكون به أي محتوى.
تجد الواحد في أثناء كلامه تعمداً أو من غير قصد لا بد أن يطعمه بكلماتٍ أجنبية حتى لو كان هذا غير ضروريٍّ، والكثير يعطي الكلمة باللغة العربية ثم يعطي ترجمتها بالإنكليزية دون حاجة لذلك -يستثنى بذلك المصطلحات بالطبع ونحوه- وهذا أمر ليس له إلا تفسير واحد هو حب المظهر واللهث بالمنظر الغربي وقلة الثقة بالنفس وبالذات وبالهوية.
أمثال هؤلاء تجدهم نوعاً آخر في الغربة خارج بلاده، هو يظن أنه يتحدث الإنكليزية أو غيرها وهو يعرف نفسه جيداً بأنه يخدع من حوله بكلمتين أو ثلاث يحفظها حفظاً، فإذا خرج من بلاده تجد كل هذا طار في أول وهلة.
الذي أفهمه أنا أن اللغة تبع للاحتياج، هكذا يقولون عن اللغة: إنها أداة للتواصل بين مجموعة بشرية، وإذا بعد الأمر عن الاحتياج دخل في الدوائر سابقة الذكر.
بغض النظر عن السلبيات سابقة الذكر؛ فيبقى اللهث في تعلم اللغة الإنكليزية واقعاً معاشاً ومفروضاً علينا، لكن دعوني أذكر بعض الأشياء التي رأيتها في الخارج؛ فعندما ذهبت إلى تركيا مثلاً، وجدت أن معظم الأتراك لا يعرفون اللغة الإنكليزية لكن الشغف لديهم في معرفة هذه اللغة، والرغبة في تعلمها، والاحترام لمن يتحدث بها موجود مشاهد، هذا ليس غريباً عند الأتراك، الذي أثار دهشتي أكثر أنني حينما جئت إلى ألمانيا وجدت نفس الأمر تقريباً، لديهم شغف بتعلم اللغة الإنكليزية وشعور -وإن كان خفيفاً- بالنقص لعدم قدرتهم على تعلم اللغة الإنكليزية، والاحترام لمن يتحدث بها.
لكن الحقيقة أنهم لا يستطيعون أن يتحدثوا باللغة الإنكليزية جيداً، لم يقتصر الأمر على الأتراك والألمان، وجدت أيضاً أن لغتي الإنكليزية الغلبانة أفضل من أصدقائي الذين هم من الصين مثلاً، أو على الأقل يمكن أن يقال "الحال من بعضه"، هذا بالرغم من أن تخصصاتهم قد تفرض عليهم المعرفة بالإنكليزية كالطب و الكمبيوتر ونحوه، وهكذا كان أصدقاء كثيرون من بلدان كبيرة كألمانيا واليابان وفرنسا وغيرها.
أقول هذا لأننا من قلة اختلاطنا بالعالم الخارجي وانعدام الثقة في أنفسنا، نشعر كما لو كان كل العالم يستطيع أن يتحدث باللغة الإنكليزية عدا نحن، وأن الغرب كله يستطيع أن يتحدث الإنكليزية بطبيعته وهذا خطأ، بل عندهم نفس المشكلة، أضف إلى ذلك موجة الفيديوهات المفيدة في تعلم اللغات، خاصة الإنكليزية، التي يبالغ بعضها في عرض معلومات لا يعرفها الإنسان البسيط -فضلاً عن المتقدم- بل لن يستخدمها أصلاً، وكثير من هذه الفيديوهات يسخر من لهجاتنا ولغتنا، وهذا ليس فيه مشكلة على الإطلاق فهو يعطي نوعاً من المرح والخفة في التعلم، لكن دعني أذكر لك أشياء طريفة لاحظتها في الآخرين أيضاً، فمثلاً يسخر الكثير من طريقة نطقنا لحرفي Th باعتبار أن اللهجة المصرية لا تعرف حرف الذال العربي والثاء أيضاً، فنحن ننطق زاياً وسيناً وهكذا، هذا أمر طبعي له نظائر في كثير من اللغات الأجنبية، فمثلاً الأتراك لا يستطيعون أن ينطقوا حرف الواو فإذا صادفهم حرف الواو في أي لغة قلبوه إلى V، والألمان عندهم نفس المشكلة فحرف W عندهم ينطق V وبعضهم يجد صعوبة في نطق كلمة Weekend فيقول مثلاً Veekend، والآسيويون حرف الراء عندهم مثلاً يمثل صعوبة في النطق فوجدت أصدقاء من تايلاند وكوريا وكذلك الصين كانوا ينادونني Lamy بدلاً من رامي، وهكذا، فهي إذاً مشكلة عامة، ليست عندنا وحدنا.
لكن الفارق بيننا وبينهم هو أنهم يحترمون لغتهم أكثر بكثير منا، فالأتراك كانوا دائماً يقولون لي جملة مشهورة: "لماذا أتعلم أنا اللغة الإنكليزية حتى أكلمك، تعلم أنت اللغة التركية حتى تكلمني"، والألمان عندهم الاعتزاز بلغتهم فوق كل اعتزاز يكفيك أنه كي تسافر إلى ألمانيا أو تحصل على الفيزا لا بد أن تقطع شوطاً في معرفة لغتهم، وهكذا كل الدول التي تحترم ثقافتها، عدا نحن، فالحال كما وصفت آنفاً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.