أعطاني مرضي فرصة رائعة لتذكر وتأمل الماضي؛ فقد كان لدي الوقت الكافي لتأمل ذلك الطريق الذي ساقتني إليه الحياة دونما تخطيط مسبق.
تذكرت كيف كرهت الطرق التعليمية التقليدية التي تجرعناها في المدارس، وتذكرت كيف أنجبت ابنتي وحلمت ذات يوم أن تحظى فقط بحب العلم.
لم أحلم لها أحلاماً عظيمة ولم أتمنّ لها شيئاً محدداً؛ لأنه لا يجب أن أحلم لها أو أتمنى، فالأحلام أحلامها، والأمنيات ملك لها، فقط تتمثل أمنياتي لها في ألا تكره العلم!
أدرك أن هذه الأمنية كانت أمنيتني لنفسي لا لها، فأمنياتنا لأطفالنا تنبع من تلك النقائص التي طالت حياتنا، كانت رئاء لحالي وما فعلته بي الطرق التعليمية التقليدية، ذلك الكابوس الذي لازمني أعواماً طويلة حتى بعد تخرجي في الجامعة، وزواجي وإنجابي، والذي كان زائراً يومياً لساعات نومي المعدودة.
تلك القاعة المعتمة البائسة وبداخلها تلك الطالبة التي تجلس هناك في الزاوية بيدها ورقه وقلم، صوت عقارب الساعة الذي يتسابق مع دقات قلبها المرتعبة ينذر بقرب انتهاء موعد الامتحان، ثم يدق الجرس فتسلم ورقتها التي تفاجأ في النهاية أنها فارغة لا تحمل بين طياتها أي كلمة تذكر.
أستيقظ ودقات قلبي تتسارع، وأحمد الله أنه حلم وليس حقيقة، وأنني تخرجت وعملت وأصبحت أماً لتلك الطفلة الجميلة، ثم أنظر إليها بخوف وأضمها إلى صدري وأنا أتساءل: هل سأورثك ذلك الحلم يوماً ما؟
هل سيكتب عليك يا حبيبتي أن تسيري في هذا الطريق البائس؟!
ورغماً عني قادتني مخاوفي إلى ذلك الطريق الجديد دونما وعي، كنت أحدث زوجي في نوبات جنوني عن أنني سوف أنعزل مع أطفالي في جزيرة لا مدارس بها ولا منشآت ولا تعقيدات حياتية، فقط حياة بسيطة سعيدة يعيشها أطفالي في سلام، ويتعلمون من البيئة حولهم كل شيء، فلا حاجة لنا إلى الجلوس طوال النهار في فصل لحشو المعلومات داخل أدمغتهم الصغيرة وتشويهها، كنت أحلم أن أنجب الكثير من الأطفال، واستيقظت على خوفي ورعبي بعد الطفل الأول من إنجاب الثاني، فالحياة التي تنتظرهم في هذا العالم مرعبة بحق.
لم أكن أعلم أن جنوني يوماً هو حق مشروع لي، وعندما علمت تشبثت بحقي فيه قبل حق طفلتي؛ حقي في أن أنسى كل ذكرياتي السابقة مع المذاكرة والاختبارات، نوبات البكاء التي كانت واجباً دراسياً قبل يوم الاختبار.
رغم تفوقي، إلا أنني كنت دائماً خائفة، فلا بد أن أحصل ما يريدون مني حتى أكون لائقة للعيش في دنياهم، ورغم أنني كنت أحقق ما يريدون، إلا أن الخوف أصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتي، وكأنه توأمي المتلاصق.
حتى عندما وجدت غايتي، قادتني في البداية معتقداتي السابقة عن التعليم دونما وعي مني، لا يزال ذلك الخوف يلاحقني، ولكن بشكل مختلف، وأصبح اطمئناني يأتي من أن أجمع لطفلتي كل أنواع الأنشطة التي سوف تؤمن حصولها على ذلك العلم بجودة محترمة.
نسيت أو تناسيت رغبتي في ذلك العالم البسيط، وتحولت مخاوفي إلى هوس لجمع كل ما يمكن أن يشعرني بالاطمئنان على مستقبلها.
رغم أن البدايات كانت بسيطة، إلا أنها تدريجياً تحولت إلى مرض الاقتناء؛ فقد كنت أشتري كل شيء وأي شيء دونما وعي، وكلما اشتريت اطمأننت، حتى أدركت أنني وصلت إلى مرحلة المرض والهوس بتجميع الأنشطة.
أمضيت طفولتي في ذلك السباق الذي أجبرونا عليه حتى كرهته، ولكنه كبر معي حتى أصبح جزءاً مني دون وعي، وجرفني إليه حين غفلت عن أهدافي ونسيتها.
استغرقت تلك الحالة معي حوالي عام أو عام ونصف، ثم بدأت أقارن بين تلك الأوقات التي تقضيها طفلتي في المزارع والهواء الطلق والأوقات التي تقضيها بين جدران المنزل مع تلك الترسانة من الانشطة التي جمعتها لها؟
قارنت بين ألبوماتها التي قمت بتصويرها وحفظها على حاسوبي، فهناك مئات الصور التي تحمل ضحكاتها وانطلاقها خارج حدود ذلك المنزل مقارنة بتلك الأوقات القليلة التي تقضيها في المنزل؛ فقد تحول تعليمها تقريباً طوال الوقت إلى تعليم "شوارع"، تجدنا في كل مكان وأي مكان نتعلم سوياً، ونتحدث في كل شيء.
لا تترك شيئاً دونما سؤال حتى إنني وجدت أبي ذات يوم يقول لي: "كان الله في عونك"، سألته: لمَ؟
فقال: لقد جعلت نفسك مدرسة متحركة لابنتك، فهي لا تكف عن الأسئلة وأنت لا تملين من الإجابة، وهذا مرهق جداً، فهل لا تحتاجين فسحة من الوقت لتلتقطي أنفاسك؟
ضحكت وأخبرته أنه يأتي عليّ أيام لا أريد ولا أستطيع أن أفتح فمي لأتحدث مع أحد مطلقاً، فأخبر زوجي أنك لا بد تحتاج وقتاً خاصاً لك مع طفلتك وسأمنحكم ذلك فهيا اخرجا من بيتي حالاً واستمتعا سوياً ولا تعودا حتى نهاية اليوم، فأنا في حاجة إلى الصمت التام وبعض من السلام.
تأتي أسئلة الطفل بشكل أساسي من شيئين:
كتاب يفتحه ويتأمل صوره فيسأل ما هذا؟ وتنهال عليك الأسئلة.
– أو يشاهد شيئاً جديداً أو موقفاً يحدث أمامه في مكان ما فتبدأ الأسئلة في الظهور.
نعم يحتاج الطفل إلى التركيز عندما يعمل على نشاط ما ليتقنه، ولكنه يحتاج إلى أن يسأل ليتعلم، فالسؤال هو باب العلم ولا علم دون سؤال!
وقد كانت أسئلتنا سابقاً توأد قبل ولادتها، فتعلمنا الصمت والخوف، فأقسمت على نفسي أن لا أقوم بوأد أسئلة طفلتي مهما كلفني الأمر من عناء، بعد المقارنة أدركت أنني انحرفت عن حلمي وسرت دونما وعي في سباق الاقتناء، ولكنني لم أحصل على الاطمئنان وأن ما يجعلني اطمئن هو أن تظل عينا ابنتي تلمعان بالتساؤلات حول أي شيء وكل شيء وأن تظل يداها تتحركان وتلمسان كل شيء بشغف
وأنها يوم تتوقف عن الأسئلة سأعلم أنها توقفت عن حب العلم
منذ عامان مضيا وأنا لا اقتني شيئا لها إلا وأنا اسأل نفسي : لم أقتنيه ؟ وماذا ستفعل به ؟
فالإجابة تجعلني اتحكم في رغبتي بتأمين كافة أنشطة العالم لها حتى تتعلم بطريقة ممتعة
أكاد أجزم أن كل من دخل إلى ذلك العالم الجديد قد انجرف بعض الوقت الى سباق الاقتناء دونما وعي منه.
البعض أدرك مرضه وتصالح معه، وتعافى منه مثلي، والبعض لم يدرك ولم يعالج، والبعض ما زال يقف في منتصف الطريق يجرفه التيار تارة هنا وتارة هناك.
منذ عامين ونحن نجوب الأماكن والشوارع بحثاً عن العلم في كل مكان، لم أعد أقيس مدى تعلمها بمقاييسهم التقليدية، فلا يهمني إن كانت تعد إلى المائة، وهي في سن الرابعه أم السابعة!
فتلك المعايير التي كانوا يعاملوننا بها هي معايير ظالمه جامدة لا تعامل ذلك الجزء البشري المميز بداخلنا، ولكنها تعامل تلك الآلة التي يريدون تحويلنا إليها.
أحيانا تنتابني نوبة من التأنيب أنني بمشاركة أنشطة طفلتي أساهم في توسيع سوق سباق الاقتناء، فأعزف فترة عن المشاركة، ثم تأتي رغبتي بالمشاركة في بناء مجتمع أفضل بطرح البدائل والخطوات التي قمنا بها علها تكون نوراً في الطريق المظلم لأحد ما ذات يوم فأعود إلى المشاركة مرة أخرى.
لا أنكر أهمية الأدوات التعليمية والأنشطة في حياة الطفل، ولكن لنذكر أنفسنا دائماً أنها ليست هي الهدف!
إنما هي فقط غاية إلى هدف قد نحتاجها لتحقيق ذلك الهدف، وقد نجد لها بدائل في معظم الأوقات، ولذلك لا يجب أن يكون جل تركيزنا عليها، ولكن يجب أن نصب تركيزنا على الطفل، على حركة يديه ولمعان عينيه.
لا أقول إن رحلتي مع طفلتي هي الأفضل، ولا أريد أن أخبر أحداً أن ذلك هو الطريق الصحيح ودونه خطأ، ولكن تلك حياتنا، وذلك اختيارنا نعيشه باطمئنان ومتعة، نخطئ أحياناً فنتعلم من أخطائنا، ونصيب أخرى فنستمتع بما تعلمنا.
من حقك عزيزتي أن تبني لطفلك عالماً ممتعاً في المنزل مليئاً بالأنشطة التي تغذي عقله، وتثري أوقاته بكل ما هو مفيد، ولكن احذري أن تنجرفي إلى هاوية سباق الاقتناء.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.