الطفولة مرحلة جميلة بكل المقاييس، فحتى المعاناة تقدم لك دروساً تستنير بها في حياتك المستقبلية، وأجمل ما كنا نستمتع به -نحن الأطفال- اللعب الجماعي مع الأصدقاء وأبناء الجيران.. وكان الجري (العَدْو) بشتى أنواعه هوايتنا المفضّلة في الصغر، سواء كان جماعياً أو فردياً.
هذه المرة ستكون المنافسة بيني وبين منافسي العنيد يوسف، تذكرته الآن بنظراته الحاسمة وقصر قامته، المطلوب منا العَدْو في اتجاه معاكس، والذي يصل أولاً عند (لجنة التحكيم) من هم أكبر منا سناً، فهو الفائز.
أعطيت الانطلاقة، انطلقنا.. وفي مكان ما من الشارع المقابل -حيث سيارة مركونة بجانب الجدار- التقيت ويوسف وجهاً لوجه، هل أذهب بين السيارة والجدار أم من الجهة المقابلة لها؟ نفس السؤال كان يدور بذهن خصمي في نفس الآن.. قرر كل واحد منا قراره بسرعة، انطلقنا بسرعة، اصطدام عنيف بيني وبينه، رأيت جبهته وقد رسمت عليها أسناني، انتفخت بسرعة.. تألمت للمشهد! كان يوسف ينظر إليَّ بشكل غريب، رأيت في عينيه الدهشة والخوف، ولكنه لم ينبس ببنت شفة. ألقيت نظرة على قميصي فرأيت دماء تسيل من ذقني، تلطخت ملابسي.. لكن لا أعرف ما حدث تحديداً؟ وأين أصبت؟!
لقد كانت أسناني سبباً في تمزق لساني إلى قسمين، ويكاد الجانب الأيسر يفصل عن بقية اللسان.
أذكر ابن خالتي مصطفى -ضيفنا من الدار البيضاء- آخذاً بيدي ومتوجهاً بي إلى بيتنا وهو يصرخ: خالتي.. خالتي.. ولدك مات.. ولساني قد تدلى من فمي، لا أستطيع جواباً ولا تعليقاً، ولا وصفاً للذي حدث!
ما أبشع أن تفقد القدرة على الكلام، وفي سن مبكرة، وبهذه الطريقة!
تزلزل البيت برمّته، مسكينة خالتي التي تجلس في البهو وتنظر إلى قدميها المخضبتين بالحناء قبل وقت قصير، الكل يسألني وفي نفس الوقت، أسئلة عديدة ومكررة، وعندما لا أجيبهم، يزداد غيظهم.. تبعني بعض أطفال الحي وحكوا الحدث بشكل عام.. لقد اصطدم مع يوسف – أصيب المسكين في جبهته؛ لأنه أقصر قامة منّي وكانت أسناني القوية قاتلتي- السؤال الآن: ما العمل؟
توجهنا إلى المستشفى في حشد من أفراد عائلتي والجيران -المنظر جنائزي ومهيب في نفس الوقت- انتظرنا -كالعادة- ليصل الطبيب:
– ما هذه الجلبة؟
– كانت الإجابة جماعية: لدينا طفل قطع لسانه نصفين.. و..
– قاطعهم ببرود: ليس لدينا ما نفعله له، اللسان لا يمكن رتقه.
نزل الجواب علينا كالصاعقة، الطبيب والمستشفى لا يملكان علاجاً ولا تدخلاً جراحياً، ذهبت الأماني سُدى، فقد كانت الإسعافات الأولية الوحيدة التي تلقيتها في البيت هي أن أصبر وأقاوم إلى حين الوصول للمستشفى!
عُدنا أدراجنا بعدما انسحب الطبيب، والوجوم يخيّم على مظاهرتنا -الحشد المرافق لي- والسؤال الذي يطرح كل واحد منا على نفسه: الحل؟
هل سأفقد النطق للأبد؟ وكيف سيكون حالي بهذه العاهة المستديمة؟!
قال الشاعر واصفاً لسانه بعدما تم فحصه:
لساني في فمي زائدة دودية.. الدماغ واللسان الأقل استعمالا بكفاءة في حياتنا اليومية.. ماذا يضرني وجوده من عدمه؟
عُدنا إلى البيت، وجدنا امرأة واثقة مجربة في انتظارنا، أسكتت الجميع: أحضروا لي كذا وكذا.. كانت خمسة أو ستة أشياء لا أكثر، صنعت منها خلطة (سحرية) أضافت إليها قليلاً من السكر المسحوق بعناية، وأخذت ريشة نظيفة، ووضعت (البودرة) المسحوق بين طرفَي لساني الممزق، وأحكمت شدّه بأصبعيها، أما عن الألم فلشدته لم أعُد أحس به، جعلت من الخلطة مرهماً، وباستعمال الريشة صارت تنظف وتداوي الجرح من أعلى ومن أسفل بشكل مستمر.
العجيب أن النتيجة كانت مذهلة وسريعة، ورتق اللسان وبدأ الألم يخف تدريجياً.
أريد أن أتذكر كيف كنت أتناول طعامي؟ وكيف كنت أنام؟
اقتصر الغذاء على السوائل، تصب بشكل مباشر في حنجرتي دون أن تلمس لساني الجريح، أما النوم فقد احتملت هذه الفترة والتي تزيد عن الشهرين بنوم ذي جودة ضعيفة.
يبدو أن الطب عجز عما نجح فيه الطب البديل -في تجربتي- والنتيجة كانت سارة بالنسبة إليَّ، فقد استعدت لساني بعاهة مؤقتة دامت لسنتين، وهي نطق القاف كافاً، لتصير الأمور عادية بعد ذلك.
هكذا انتهت قصتي مع اللسان والنطق الذي يرفع الإنسان عن باقي الكائنات، ألم يقولوا إن الإنسان حيوان ناطق؟ فماذا يكون الحال لو فقدت لساني يومئذ؟
هل تذكرون حادثة من طفولتكم؟
دُمتم طيبين.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.