أنتم جيلٌ عجوز ومهزومٌ.. لماذا ينبغي عليَّ أن أعتذر لوالدي؟

عدد القراءات
1,128
عربي بوست
تم النشر: 2018/06/25 الساعة 10:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/06/25 الساعة 10:52 بتوقيت غرينتش
Mature man with his son in their artisanal handicraft traditional textile factory

قبل أيام كنت أحزم أمتعة عائلتي تمهيداً للخروج في إجازة عائلية. يومها وبسبب ضيق مساحة الأمتعة في سيارتي طلبت من زوجتي التخفف مما ليس بضروري.

لم يكن الأمر ممكناً، أو هكذا أخبرتني زوجتي فوقفتُ محتاراً أمام الأمتعة الكثيرة التي لا أجد لها مكاناً، ثم تذكرت أبي -رحمه الله- وقد كان نجاراً يبيع الأثاث المنزلي، وكانت تأتيه سيارات نقل الأثاث من طرف زبائنه الذين كانوا يعتمدون عليه في ترتيب البضاعة في سيارات النقل.

ولطالما تعجبت أشد العجب من قدرته على ترتيبها وسط السيارات حتى تتسع لجميع المنقولات، ورأيت غيره لا يستطيع ذلك، بل يحتاج إلى سيارات أكثر.

أذكر أن الأمر اجتذبني جداً فجعلت أراقبه لعلي أكشف أسراره! وسألت أبي فأجابني ببعض ما فهمته، ثم إني تذكرت كيف كان رحمه الله ليفعل إذ يرتب سيارتي، وحاولت، ونجحت وجعلت أشير على أصدقاء لي فيفعلون.

كل هذا جعلني أعيد التفكير فيما اقترفه ويقترفه أبناء جيلي، وهم من أكثر الفئات التي انخرطت في الثورة وعركتها أحداثٌ جسام، فأضافت إلى خبرتها الكثير مما يجعلنا نزهو بتجاربنا وعقولنا ونستغني عن معارف آبائنا.

أذكر أنني كنت أناقش والدي يوماً ما، وقد كان رحمه الله يترك لنا حبل مناقشته على الغارب فنرفع أصواتنا وننتقد آراءه ونحاول إقناعه كما نقنع صديقاً لا أبا متحكماً في كل شيء.

وأنا أعترف أنني مثلاً لا أمتلكُ مثل هذه الفضيلة مع ابنتي؛ إذ تناقشني أو تحاورني بما أرفضه. نحن لا نمتلك فضائل جيل آبائنا، وإن ملكنا علماً أكبر منهم، وإن ملكنا نشاطاً وحمية أقوى منهم. لكنهم يبقون في الأعم الأغلب أكثر تفهّماً للحياة منا، وفي كثيرٍ من الأحيان أكثر حكمة وأرق قلباً.

يومها صارحت أبي بما أستغفر الله منه اليوم، قلت له: أنتم جيلٌ مهزوم عاش تحت حكم عبد الناصر والسادات ومبارك، حُكِم بالحديد والنار ولم يحرك ساكناً. يومها قال لي أبي وهو يتشاغل بعمله وينصرفُ عني: ألم نُرَبِّ نحن جيل الثورة الذي ثار وأسقط مبارك؟ أم أنكم خرجتم من الأرض وحدكم تعرفون كل شيء؟ يومها واصلت ثرثرتي الفارغة وانصرف عني هو إلى عمله.

جالستُ والدي -رحمه الله- ذات يومٍ صيفي أمام ورشته للنجارة في بلدتنا بالشرقية وكنت يومها طالبًا بكلية الطب، وهو أمر يعطي صاحبه مكانةً رفيعةً وسط أهل الريف المصري حتى إنهم يخلعون عليه لقب "دكتور" من أول يوم يبدأُ فيه الدراسة. يومها كان سوق التجارة هادئاً بعد موسم مزدحم، وكان عمال الورشة ينقلون بعض مواد البناء إلى الطابق الثاني من المنزل، وطلب مني والدي أن نساعدهم ففعلت، ثم إنني تعبت قليلًا فجلست بجواره أستريح على مقعدٍ خشبيٍ يطل على الطريقٍ عام. بعد دقائق مرّ علينا أحد العمال (الأُرزَقِيّة) وهم عمال ليس لهم حرفةٌ محددة بل يعملون في كل شيء، وكان هذا الرجل ممن يجيدون نقل الأشياء وحملها. انعطف الرجل إلينا، سلّم وجلس ثم التفت إلي وصافحني واحتفظ بيدي لا يفلتها، لكنهُ أشاح بوجهه عني إلى أبي وبادءهُ الحديث الذي أنقله بعاميته التي لا أزال أذكرها حتى اليوم.

جعل الرجل يُرِي أبي صفحة يدي وهو يقول: "لَمّا الإيدين الحِلوة الناعمة بتاعة الأفندية دي تشيل طوب ورملة، أُومّال الأُرزقية اللي زيي يعملوا إيه!! يروحوا الكلية ويلبسوا أفندية!". ولم أفهم شيئاً مما يقصده الرجل، لكني رأيت أبي يُطرِقُ بوجهه وتتسع ابتسامته شيئاً فشيئاً، ثم رفع وجهه وهو يقول للعامل: "عندك حق، المرّة الجاية بتاعتك". لكن العامل أعاد الجدال كأنه يستعطفه، فقاطعه أبي: "خلاص شوف حد وطلعوا شوية الطوب والرمل اللي باقيين".

 خرج العامل من فوره يهرول مستبشراً، وأشار والدي لعمال ورشتنا بالتوقف عن نقل المواد ثم التفت إليّ وهو يراني في حيرة شديدة، فشرح لي الأمر كله. كان العامل ينكر على أبي أنه لا يستأجره لنقل مواد البناء ويكتفي بعمال ورشته وأبنائه عنهم. والرجل يرى ذلك قطعاً لرزقه، فلماذا ينبغي أن يستغني أبي بعمال حرفة أخرى عن عمله! وأبي يجيبه إلى ذلك ويقره ويستعمله على الفور.

ثم إنني ناقشت أبي فوجدته على يقين من ذلك ويراه صواباً، ويرى ذلك حفظاً لقلوب هؤلاء العمال وتأليفاً لهم ومنعاً لهم من الحسد والانحراف.

ولقد عايشت مجتمع أبي من الصُنّاع والحرفيين فرأيت من هذه الأمور الشيء الكثير. وقد كان أبي وعمٌّ لي ممن يحتكم إليهم في صنعته حين الاختلاف، وكنت والله شاهداً على كثير من أحكامهم التي يعللونها بقيم التكافل والتراحم والحق والعدل، ولذلك فإن مَن عايش مثل هؤلاء الأقوام ودخل في دوائرهم، يتبين له كذب ادعاء أبناء جيلنا أنهم دعاة التكافل والعدالة الاجتماعية. ربما نكون نثرثر كثيراً حول الأمر ويمارس بعضنا التنظير له، لكن الأجيال القديمة مارسته منذ قديم الأزل دون أن تدعي بذلك فخراً.

عاينتُ عجائز من أهل بلدتي يقصدهن الفقراء يسألون الصدقة والمساعدة، قبل رمضان والعيدين وعند دخول العام الدراسي فينثرن من أكياسهن ما يساعدون به الناس. وكانت جدتي رحمها الله تنهاني أن أصف عمال ورشتنا أنهم "بيشتغلوا عندنا" وكانت تقول: "بيشتغلوا معانا، مفيش حد بيشتغل عند حد" وهي يومئذ عجوزٌ أمية تَعُدُّ الأرقام وتحصيها على أصابع يديها. كل هذه الحوادث التي تستدعيها ذاكرتي في مجال واحد فقط وهو مجال التكافل الاجتماعي، وأنا لا أظن أنني أستطيع إحصاء كل الحوادث التي رأيتها من جيل أبي وتعلمت منها.

حين قامت الثورة في مصر، لم يخطئها أبي بل كان -رحمه الله- مريضاً وملتزماً بالغسيل الكلوي يوماً بعد يوم، ثم إنه طلب منّي صبيحة التاسع والعشرين من يناير/كانون الثاني أن أقود به ليرى بعينه حريق أقسام الشرطة ومقار أمن الدولة، وحين قلت له: هذه يا أبتِ مصارعُ الظالمين، أقرني وجعل يردد الكلمة كأنه استحسنها.

في لقائه الأخير معي ها هنا في مهجري في دورتموند أخبرني أنه لم يعد يطيق العيشة في مصر وسأل الله ألا يطيل عمره بها وحين سألته عن السبب أفاض لي بأنه منذ حدثت مذبحة رابعة العدوية، وهو لا يطيق البلد، ثم أضاف: تسيل كل هذه الدماء ولا ينكر القوم! حتى الذين لا يؤمنون بالله نطقوا! وظل -رحمه الله- يجهر بهذا ويخبره من حوله حتى كانت أمي تشتكيه إليه، تخشى عليه من بطش الظالمين، كل هذا وهو رجل لم يتلقَّ أي قدرٍ من تعليم نظامي وليس له هوى بجماعة سياسية أو تيار ديني.

كل هذا رأيته من أبي يومها ولم أفقهه، وكنت أبحث عن الحكمة عند غيره، وحين جاءت الأسئلة الصعبة أجاب هو عنها، ورسبوا جميعهم فيها، لكل هذا ينبغي لجيلنا أن يتواضع، وأن يعطي كل ذي قدرٍ قدْرَه، نحن في كل الأحوال يتامى ثورة مهزومة وأبناء جيلٍ يلملم اليوم شعث نفسه قبل أشلائه، وربما تكون هذه التدوينات هي إنجازنا الوحيد.

ولأجل كل هذا، ينبغي عليَّ أن أعتذر لوالدي.

مدونات الجزيرة

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
دسوقي أحمد
طبيب مصري مقيم بألمانيا
تحميل المزيد