صارت لي مؤخراً هواية جديدة، وهي اقتناص الدقائق التي ينشغل بها عنّي جميع زملائي في العمل لأذهب في زيارة سريعة إلى إحدى جزر المحيط الهادئ الكثيرة، وأبدأ بتأمّل بحيراتها وشواطئها.
زيارتي هذه بالتأكيد ليست حقيقية، بل مجرد زيارة افتراضية على برنامج الـGoogle Earth.
صرت أمضي الكثير من الوقت مؤخراً على هذا البرنامج؛ لأستمتع بمشاهدة الجزر في المحيط الهادي والمحيط الأطلسي.
كل يوم أهرب من روتيني اليومي؛ لأبدأ بهذه الهواية وأتجول في المحيطات حتى أجد جزيرة صغيرة مأهولة ببعض السكان، ثم أقرب الصورة أكثر وأُلقي نظرة فاحصة على جميع تضاريس الجزيرة.. جبالها وشواطئها وطرقها وأسواقها ثم أبحث لي عن بقعة على طرف القرية مطلة على المحيط؛ لأبدأ ببناء منزل صغير لي هناك.
بعد أن أختار البقعة المناسبة للمنزل أبدأ بالتخطيط للسفر لتلك الجزيرة، وهنا تبدأ المتعة.
سأصعد لمكتب المدير العام وأبلغه بمدى مقتي للوظيفة، وفي اللحظة التي سيفكر فيها بتوجيه عقوبة لي سأكون قد وضعت استقالتي على مكتبه، وأتوجه بعدها لقسم اللوازم لأسلم كل ما على عهدتي من مواد: جهاز الحاسوب، والمكبس، ووصلة الكهرباء… وسلة المهملات الممتلئة دائماً بالأوراق غير المهمة. وسأغادر المبنى حتى قبل أن يستوعب زملائي شيئاً، وقبل حتى أن أنهي فنجان القهوة الصباحي.
سأعود للمنزل وستسألني زوجتي عن سبب عودتي باكراً، فأجيبها أنني قدمت استقالتي، وأن عليها البدء بتجهيز حقيبتها؛ لأننا سنغادر لنعيش على شاطئ جزيرة في المحيط الهادي.
قبل أن تستيقظ من صدمتها سأكون قد عرضت السيارة وأثاث المنزل والحاسوب ومئات فناجين القهوة التي لم نستخدمها يوماً للبيع.
وقبل تخلّصي النهائي من هاتفي الذكي سأحرص على مغادرة كافة مجموعات الواتساب العائلية وزملاء العمل والأصدقاء والجيران، ثم سأمزق كافة دعوات الأفراح التي عليَّ حضورها خلال هذا الشهر وسألقي الروزنامة في سلة المهملات مع فواتير الكهرباء والماء والإنترنت والجمعيات والنقابات والنوادي.
لن أحمل معي الكثير.. بنطال وقميص وكتاب العواصف لجبران.
أثناء تجهيزي لحقيبتي سأكون قد اتصلت بمكتب سفريات لحجز تذاكر سفر واستخراج التأشيرات للسفر إلى أستراليا، ومن هنالك سنتوجه لمطار محلي؛ لنصعد على متن طائرة صغيرة برفقة بعض التجار المتوجهين إلى الجزيرة.
عند وصولنا إلى الجزيرة سنكتشف أننا لم نأكل شيئاً منذ مغادرتنا النهائية لوطننا القديم، فسنجد مطعماً بسيطاً على الشاطئ يقدم وجبات لا نعرف اسمها ولا نعرف مكوناتها، لكننا سنجلس ونطلب الطعام وسنأكله بشهية، ثم سنشير لصاحب المطعم ليحضر لنا عصير فواكه كالذي يشربه الصبية على الطاولة المجاورة، وأثناء ذلك سأسأل زوجتي: "والآن ماذا نفعل؟"، لن تعرف ولن أعرف فستنظر إليَّ بحيرة ثم سنضحك.
سنستأجر كوخاً بسيطاً على الشاطئ وسنلاحظ كثرة وجود الزواحف والعناكب، فسأقترح على زوجتي شراء كلب ليحذرنا من هذه الكائنات، فستقول: لا. لكني سأشتريه على أي حال. سنستغرق في تنظيف الكوخ الجديد مدة طويلة؛ لأننا سنمضي الوقت على الشاطئ وفي أسواق القرية الشعبية أكثر من الوقت الذي سنمضيه في الكوخ.
سنمشي في شوارع لم تطأها أقدامنا من قبل وسنأكل طعاماً لا نعرف اسمه.. وسنرى وجوهاً جديدة كلياً.
ثم ستقترح عليّ زوجتي أن نغيّر اسمينا… سأختار اسم التاجر الضخم الذي جلس بجواري في الطائرة المحلية "أشنيل"، أما هي فستختار اسم عاملة المطعم اللطيفة "أريادنا".
أثناء جلوسي على الشاطئ في أحد الأيام سأسمع صوتاً يناديني، فأنظر لليمين؛ لأكتشف أن عامل النظافة قد أتى لتفريغ سلة المهملات الممتلئة دائماً بالأوراق غير المهمة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.