– أيعقل أنني لم أتخذ قراري بعد! أوَيعقل أنه بهذه الصعوبة؟! ربما تخالني طفلة صغيرة بينما أعترف أنني عشرينية تفصلني سنتان عن بلوغ الثلاثين من عمري!
– ولماذا ستعتقد أنني طفلة صغيرة بينما ليس من مدعاة لذلك سوى أنني لم أحدد أي فستان سأرتدي للعيد!
– وهل يؤرق مضجعي هذا الموضوع؟
– لا يؤرقني بالفعل، ولكنه يشغل تفكيري.
– من جديد فلا مدعاة هنا لأن أعتقد أنك طفلة بينما هناك كُثر من النساء يلزمهن هذا الشعور منذ نعومة أظفارهن وحتى مراحل عمرية متقدمة جداً، فلا ضير في ذلك.
– حسنا.. لم أكن كذلك، إلا أن تحولاً ما أصابني، كذلك الرجل الذي عاش زمناً متخماً بالمسؤوليات؛ ليدخل متأخراً مرحلة نسي معها عمره.
– وهل أنا أُراهق؟!
في الحقيقة لا.. إنني فقط أُعيد اجتلاب الزمان لمكان خال الوفاض وفارغ المحتوى، يربطني به حبل قصير ضعيف لم يحمل بعد أي بعد عاطفي، وليس من المتانة بمكان ليسهل عليّ أن أعلق عليه محتوى ثقيلاً ودسماً من الذكريات الجميلة كتلك التي تربطنا بالوطن.
ربما لا نستطيع أن نحمل الوطن معنا في كل مكان، لكن نستطيع أن نصنع لنا وطناً في كل مكان، وإن صغُر، ولم يتعدَّ حدود منزل صغير في زقاق بعيد في مدينة غربية.
كان لي من الحظ وفرة عندما أُتيحت لي الفرصة لزيارة إسطنبول في تركيا، تلك الرحلة التي لم نضيّع فيها صلاة وفي المسجد وجماعة أيضاً! لم نقاوم لذة الطعام واستمتعنا بكل طبق ابتعناه، والمشهد العام للمدينة قريب إلى القلب، ولا تشعر معه بالوحشة خلافاً للحياة في بلد أجنبي لا يشاطرك أي شيء.
خمس مرات في اليوم إن لم يكن أكثر وأنا أعيد على مسامع زوجي نفس العبارات، التي وإن وافقني عليها فإنه لم يوافقني ذلك التكرار الذي لن يقدم أو يؤخر… كان حماساً مفرطاً وحسب.
"الغربة في بلد قريب ثقافياً واجتماعياً وحتى دينياً، هي أخف وطأة من تلك الغربة التي تشعر بها في بلد غريب عنك في كل تفاصيله".
وها أنا لا أمل التكرار، وأجد نفسي مجدداً أمام هذا الشعور الذي أقاوم الاستسلام له في محاولة صنع ذكريات تشبه في وجه ما تلك التي في الوطن.
يقول سقراط: "سر السعادة كما ترى، لا يتم في السعي إلى المزيد، ولكن تنمية القدرة على التمتع بالأقل"، والأرض في الغربة جدباء إلا من مصادر الرزق والكسب لمُجدٍ ملك المعرفة والعمل فهي حينئذ خصبة بحجم غيمك.
المناسبات الدينية وشهر رمضان بخصوصيته المتفردة، وها هو العيد قبل أسبوع، من أكبر عُقد النقص في المشهد العام أمام المغترب في بلد أجنبي لا يشاركه هذه المناسبات التي يقضيها وحيداً لا يميز الأيام عن بعضها، فتفتقد خفقان القلب، ذاك الذي تشعر به أمام أصوات الصلاة ونداء المسحراتي وتكبيرات العيد، وربما يمر به العيد دون أن يلحظه ولو بتشويحة أخيرة.
يصعب الأمر تحديداً على المغترب الأعزب الأعزل، ويهون الأمر قليلاً على من رافق أسرته وإن صغرت ولم تتعدّ زوجاً وطفلاً.
حبال من الأضواء تزين المنزل، وهلال كبير على الباب، فوانيس وزينة داخل المنزل، وصنع "theme" نمط عام يرتبط بالمناسبة يضيف جواً من المتعة، بينما صنع الحلويات ومشاركة الجيران بها سيقدم صورة منفتحة ذات أبعاد لطيفة ليس فقط لمحيطك العام، ولكن أيضاً أمام الأطفال – إن وُجدوا – والذي حتماً سيتبنى سلوكاً عصرياً مبنياً على مفاهيم عميقة جداً تتعلق بالدين والحياة والجوار والمعاملات، وهذا بحد ذاته يثلج حميم الحنين قليلاً ويجلب جرعة من الاطمئنان والسكينة.
أظنني هنا أنحاز نحو مفهوم الثورة Revolution كنتيجة للتكيف وكخيار ثالث ألتقطه عنوة من كفّي الانعزال Isolationism والانسحاب Withdrawal في ثالوث وضعه العالم الأميركي روبرت ميرتون في نظريته حول الاغتراب والتكيف.
هذه الثورة التي تحاول جاهدة نفض عبارة قديمة لأبي حيان التوحيدي، والتي لا تنفك تختال في عقلي هنا وهناك، وتشهر نفسها عند كل مدخل ومسرب، وتلوح لي في كل مناسبة منذ فترة وجيزة، يقول فيها: "أين أنت عن غريب لا سبيل له إلى الأوطان ولا طاقة به على الاستيطان؟".
وهنا أجد عند ابن العربي المرسى، حين وصف السفر بأنه "حركة تتعلق بكل شيء، ويتعلق بها كل شيء، فالوجود كله سفر في سفر"، وأظنه هو من لفت لأول غربة في الوجود كابدها آدم على الأرض، حين ترك جنته واغترب بعيداً عنها؛ ليبدأ شوطاً طويلاً من التكيف مع هذه الحياة المليئة بالأسرار، والتي لا تخلو من الحنين إلى الوطن الأول، والسعي وراءه لمن أراد أن يعود.
في اللغة، يتسع مصطلح الغربة ليطال النفس والجسد في شكلين مختلفين، فليست الغربة شعوراً يقتصر على هؤلاء خارج عش الوطن من الطيور المهاجرة، بل يتعداه إلى غربة تصفع المواطن في وطنه نتيجة أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية، فتهون هنا غربة الأوطان والتي لم تخرج من جغرافيتها، وتتأزم تلك الأخرى فتصبح نواة ثورة من شكل آخر لا تطفئها زينة في عيد!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.