بأيِّ حالٍ عدتَ يا عيدُ؟ هل عودتك تحمل الفرح لقلوب أرهقها الفَقد؟ أخبرني أيها العيد ماذا تحمل لنا من أخبار؟ هل سيفرح الأطفال بكعك العيد ولبس العيد وعيديٍة ممن يحبون؟ هل ستتباهى أمهاتنا بالمعمول الذي عهدن على إعداده؟ أخبرني ما بالك صامتاً؟!
أرجوك أيها العيد حينما تطرق باب غزة لا تغادر باكراً، امسح دموع اليتامى، احضن ما تبقّى من شتاتِهم ولا تذكّرهم بأنك ستُغادر، رافق الشيوخ المحملين بالحكايات في جولة بين بقايا وطنهم، سيحدِّثونك عن أمنياتهم في الصلاة بالقدس وسجدة بباحات الأقصى، ستترجم عيونهم سنوات الحصار والفقر والحرب، أصغِ إليهم جيداً فقلوبهم طاهرة وحكاياتهم صادقة وإن استطعت دوِّنها في مجلدات الشرف حتى يقرأ العرب عن الرجولة، ثم احمل باقة من الورود إلى سيدات يرتدين أثوابهن التقليدية ستجدهن يتشبثن بك رغم ما يعتصرهن من ألم، سيحكين لك الكثير عن الصبر، رافقهن إلى المقبرة ففلذات أكبادهن تحت الثرى تعانق أرواحهم نقاء السماء، سيروين لك حلم الشهداء البريء في حياة شرف وكرامة، نعم أيها العيد.. النساء في غزة جعلن من الفقد سلاحاً يسقي عطشهن إلى جنة اسمها "فلسطين".
لا تُغادر باكراً.. عليك بواجب العزاء، فغزة الجريحة فقدت في رمضان 127 شهيداً، تحدثَ عنهم كل العالم بسلميتهم وبسالتهم وقوة حقهم، أخبرهم يا عيد حلم ياسر مرتجى بالتحليق، وحلم فادي وإبراهيم بأطرافٍ صناعية، وحلم عُمر سمُّور (أول شهيد في مسيرات العودة الكبرى) بزراعة وحصاد أرضه بحُرية، أخبرهم عن عزَّام عويضة ذلك الطفل الصغير الذي عبَّر بطائرته الورقية البسيطة عن حبه وشغفه، أخبر عن أحمد الصحفي المجتهد وعن رزان التي عرفها العالم بأسره بردائها الأبيض وبطاقتها التعريفية الملطخة بدماء من أسعفتهم، وأخبرهم عن شجاعة الطفل هيثم الجمل وهو يحمل الإطارات المطاطية على شرق غزة لإخوته الشهداء الأحياء، أخبرهم يا عيدُ أن جلَّ ما تمناه هؤلاء وغيرهم كان صلاة في القدس أو إفطاراً على أبوابها.
أي عيد بعد هواك؟! ** كان العيد بيوم لقاك
حتى لو تنساه فإني ** لم يُخلق قلبي لينساك!
أيُّ جُرح صاب فؤادي؟! ** ولمن بعد الهَجر أنادي؟
فأنت حدودي.. وأنت بلادي ** والآن سيهجرني ضِياك!
ما إن يحل المساء حتى يخلد الجميع إلى ما يشغله، وما بين هذا وذاك قلوب طيبة لا ملجأ لها إلا الدعاء، هؤلاء مَن يقدمون لنا بعض العزاء ليس في رجال ارتقوا إلى السماء أحياء عند ربهم يرزقون، بل يُعزوننا في عُزلتنا حينما تخلّى عنا العرب من أجل مصلحة صفقاتهم الاقتصادية وملفات تطبيعهم السياسية على حساب حقوقنا وأرضنا وقدسنا.
اطرق أبواب كل المنازل يا عيدُ، سترى ماذا فعل الحصار في أناس تعمل وتشقى دون أن تنال، ربما في هذا العيد الأسواق خاوية على عروشها فلا طعم ولا رائحة، لن تجد الأطفال يمرحون بثياب جديدة، لن تغرق جيوبهم بالحلوى ولا بالعيدية، لن ترى البالونات الملونة متطايرة في السماء.
سيُخفي الناس أحزانهم ويتوجهون إلى المساجد مهللين مكبرين، سترى أيها العيد كم يحبُّك أهل غزة، سيتبادلون التهاني والذكريات، سيصلي الفتى دون صديقه سيبكيه معاتباً إياه على الرحيل وحيداً، كيف له أن يستشهد دونه، حينها ستعرف بأننا لا نستجدي أمور الدنيا، فقد كبرنا على حبِّ الشهادة، رضِعناها من أول صرخة لنا في هذا الوجود، ولن نفطم منها حتى تعلو صرخات الله أكبر فلان ابن فلان شهيد.
127 شهيداً ليس بالشيء الجديد، فتراب غزة غنيّ بدماء الشباب، الشيوخ، الأطفال، والنساء.. هذه الأرض ولودة بالرجال والطاهرات، أرضنا يا عيد تُسقى بدماء الشهداء، تُنبت الشهداء، تُربي الشهداء هي كما قال عنها محمود درويش: (إن سألوك عن غزة قل لهم: بها شهيد، يُسعفه شهيد، ويصوِّره شهيد، ويودعه شهيد، ويصلي عليه شهيد). لا ترحل أيها العيد باكراً.. سلِّم على صغيرهم وكبيرهم واطبع قُبلة على جبين صبرهم.
لك الله يا غزة.. سلاماً لشبابك الوفي، وكل الرحمة لشهدائك الأبرار، كل عيد وأنتِ نابضة بالحياة رغم رائحة الموت المنتشرة في زواياكِ، كل عيد والله أكبر ترتفع في مآذنك لا يحجب صداها صوت الحرب والرصاص، كل عيد وأجراس كنائسك ترفرف شامخة في سماء القيامة تخترق حُجُب الاحتلال.
عدتَ يا عيدُ وغزة لا تزال تنزف، يكيد لها الظالمون، ويخططون لسقوطها يوماً بعد يوم لكن الله شاء أن يرفعها، ستظل واقفة تروي قصص الخيانة وحكايا العار عندما كان الصامتون على حالها يشاهدون ما يجري ولا تسري فيهم إنسانية، ماتت ضمائرهم بعد أن غمرتها الأنانية وحب السلطة والمال، لا بأس.. ستبكي غزة لوحدها، وستُلبس أبناءها الأبيض موشَّحين بأعلام العودة وتزفّهم إلى الجنة.
غزة.. كل عام وأنتِ أقوى يا حبيبتي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.