ماذا أتى في الليل؟.. الوباء الغامض الذي سيقضي على سكان العالم

عدد القراءات
690
عربي بوست
تم النشر: 2018/06/20 الساعة 14:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/04/13 الساعة 06:10 بتوقيت غرينتش


تدور أحداث الفيلم في عالمٍ يقضي فيه وباءٌ غامض على سكان العالم بسرعة، وتهرب عائلةٌ إلى الغابة كمحاولةٍ لتجنبه. لكن، وكما يظهر في الفيلم، لا أحد يستطيع الاختباء من الظلام للأبد.

يعلق كثيرون ممن شاهدوا فيلم "It Comes at Night" ساخرين: "لا شيء يأتي في الليل!" فألتمس لهم شيئاً من العذر. لا بد أن عنوان الفيلم وإعلانه قد أوحيا ووعدا ببعض "الرعب" الذي انتظر المشاهدون أن يقرع -في الليل، بالطبع- باب تلك الأسرة الصغيرة اللائذة ببيت حصين.

الأب "بول" والأم "سارة" وابنهما المراهق "ترافيس" والجد "بَد" والكلب "ستانلي". الرعب الذي بدا منذ اللحظات الأولى أنه سيعلن عن كونه وباءً اجتاح البشرية فأهلكها ولم يذر سوى حفنة من الناجين.

يبدأ الفيلم بأعراض غامضة تظهر على الجد، وخليط من مشاعر الرعب والأسى والحسم يقتاد "بول" به الرجل المريض إلى خارج البيت لينفذ حكماً فورياً بالإعدام الرحيم.

إلى هنا والمُشاهد آمن مطمئن، يترقب – بتلك اللذة المريضة المعروفة – فيلماً عادياً من أفلام الرعب التي تجتاح فيها البشرية أوبئة لا تذر سوى حفنة من الناجين.

قد تختلف التفاصيل من فيلم لآخر: فلنجعله مرة وباءً فيروسياً ينتشر كالهشيم، ويترك عروق ضحاياه مصبوغة بالأزرق الداكن المنتشر، ولنجعله مرة سلالة بكتيريا خارقة هربت من معمل حكومي سري لتحوِّل البشر إلى "زومبي"، ولا بأس بالطبع من أن نجعل الوباء -على سبيل التجديد- سبباً في نشوء شعوب كاملة من مصاصي الدماء. يسترخي المشاهد في مقعده الآمِن وينتظر "التنويعة" التي سيأتي بها الفيلم هذه المرة؛ ليردد لنفسه ولمن حوله مع نهاية الفيلم: "لا بأس. لم يكن سيئاً".

لكن الانتظار يطول.. ولا تأتي أبداً تلك اللقطة التي يسرد فيها الكابتن "روغرز" للسيد المُشاهد ما حدث للأرض منذ عشرين عاماً، أو التي يشرح فيها الدكتور "جونز" كيف بدأ الوباء وماذا يفعل بالتفصيل في المرضى المساكين.

تجاهُل متعمد للسيد المشاهد من مخرج وكاتب الفيلم الشاب الأميركي "تراي إدوارد شولتس Trey Edward Shults" – مواليد 1988 – لا يعذره فيه سوى حداثة سِنّه وتجربته، فهذا هو فيلمه الطويل الثاني -فقط- بعد ثلاثة أفلام قصيرة.

لم يتعلم "شولتس" بعد كيف تورد الإبل، لم يتعلم أن المخرج إذا أراد أن يصنع فيلم رعب ناجحاً فعليه ألا يُقلق السيد المُشاهد أبداً.

السيد المُشاهد يُخرج نقوده لفيلم الرعب الذي يقدم له خوفاً يعرفه، خوفاً يطمئن إليه! أما البقاء في الظلام طوال الفيلم وحتى لحظته الأخيرة فهو.. فهو شيء مخيف حقاً!

فيلم "it comes at night" من بطولة جويل إدجيرتون، كلفن هاريسون جونيور، كارمن إجوجو، كريستوفر أبوت، رايلي كيو، ومن سيناريو وإخراج تري إدوارد شولتس

وتمر لحظات الانتظار ثقيلة على المشاهد الغارق في بُهمة الليل.

لا نرى أبداً ما الذي يأتي في الليل، حتى حين تلتقي الأسرة الصغيرة الناجية بأسرة صغيرة ناجية أخرى (الأب ويل والأم كيم والطفل أندرو) لا ندري من أي شيء بالضبط نجا الجميع.

فقط تصبح الأسرة المحصنة -والمحاصَرة- في المنزل أسرتين.

ويشرح "بول" للأسرة الجديدة قوانين البقاء في المنزل، والبقاء على قيد الحياة: لا يُسمح أبداً بالخروج في الليل إلا للضرورة القصوى (فإنه يأتي في الليل، كما تعلمون!)، ولا يُسمح بالخروج نهاراً إلا في مجموعات، والأبواب والنوافذ كلها موصدة أبداً، فيما عدا ذلك الباب الأحمر في نهاية الرواق الخارجي، على شرط أن يُغلَق دائماً فور استخدامه للدخول أو للخروج (فإنه عندما يأتي في الليل، سيستعمل الباب الأحمر، على الأرجح).

وننتظر أن نتعرف على الأسرة الجديدة، لا أعني أسماءهم أو ما قدَّموا به أنفسهم، بل حقيقة نواياهم.

هل هم حقاً ضحايا أبرياء؟ هل يمكننا اعتبارهم فعلاً حلفاء؟ أم هل ارتكب "بول" خطأه الأكبر حين سمح باستضافة مَن "أتى في الليل" من باب الشفقة وطلب الصحبة؟ ننتظر أن يشير لنا الفيلم إلى العدو أخيراً كي نسلِّط عليه مشاعرنا الجاهزة للانطلاق، لكننا نبقى في الظلام، ولا نرى في تلك الحُلكة سوى سَنَا إشارات مبهمة لأفعال أو أقوال يُحتمل أن تفسر لنا شيئاً أو اثنين، غير أن الفيلم يمضي دون أن يُصدِّق استنتاجاتنا أو يُكذِّبها.

حتى نصيحة "بول" لابنه "ترافيس" لا نستطيع أن نطمئن إليها تماماً: "لا تثق بأي أحد سوى العائلة".

ألم يخالف "بول" نفسه نصيحته هذه بشكل صريح حين قبل استضافة عائلة "ويل"؟ ألم يكن الجد يضع كامل ثقته في "عائلته" قبل أن تظهر عليه أعراض المرض؟ إن "بول" رجل لا تمتلك أن تحسم مشاعرك نحوه أبداً (ومن قبيل كمال حسن الاختيار جسَّد الدور الممثل الأسترالي جول إدجرتون Joel Edgerton الذي لم أحسم مشاعري نحوه إلا بعد مشاهدة عدة أدوار له، وما زلتُ لا أعرف لها أسباباً بعينها!) ولا تستطيع أن تصدق بسهولة أي شيء مما يقول، حتى حين يدعو "ويل" لينادمه على الشراب، كإشارة إلى الترحيب وحسن النوايا، فإننا نعجز عن تصديق مشاعره، وحتى الحقائق الصغيرة التي يُسقطها -عامداً فيما يبدو- في حديثه.

"قبل كل هذا كنت أعمل مدرساً للتاريخ. إذا أردت أن تعرف شيئاً عن الإمبراطورية الرومانية فأنا الرجل المناسب". يقولها "بول" لـ"ويل" مازحاً فلا أصدقه. هذه ملامح رجل كان يحترف أي شيء سوى تدريس التاريخ!

يؤخذ على الفيلم أنه تجاهل التفاصيل التي يسرد فيها الكابتن "روغرز" للسيد المُشاهد ما حدث للأرض منذ عشرين عاماً، أو التي يشرح فيها الدكتور "جونز" كيف بدأ الوباء وماذا يفعل بالتفصيل في المرضى المساكين.

لكنك -في المقابل- لا تستطيع وضع ثقتك في "ويل" الذي لا تعرف عنه أي شيء بدوره، ولا عن زوجته "كيم" التي تحاول ذات ليلة أن تفتح باباً لحديث ناعم مع "ترافيس" بل تسأله فجأة عن عمره، ولا عن ابنهما "أندرو" الذي لا يصح أن ننسى أنه في النهاية طفل في فيلم رعب، أي أنه يجب أن يتصدر قائمة الاتهام! ربما سيعلن "أندرو" في أي لحظة عن وجود "صديقه الخيالي" الذي يوحي له برسم مئات اللوحات عن العفاريت والشياطين، قبل أن يمل أخيراً ويأمره صراحةً: "اقتلهم جميعاً!".

عزيزي المخرج الشاب.. نحن -في رابطة مشجعي أفلام الرعب- نعرف كل الأنواع والتنويعات.

يكفي أن تستقر على بعضها وسنشجعك، نحن قررنا مشاهدة فيلمك بإرادتنا ولا نريد له أن يفشل، لكن ساعدنا، ساعدنا حتى بتلميح بسيط في بوستر الفيلم: يد مخلبية، سكين يقطر دماً، نجمة خماسية، ظِل مسخ على الحائط، قلعة على تل تحت ضوء القمر. أي شيء سوى أن يكون البوستر مجرد صورة خلفية لكلب يقف في توتر محدقاً في قلب غابة مظلمة تماماً تمتد أمامه -وأمامنا- بلا حدود.

ساعدنا بعنوان يمكننا استنتاج أي شيء منه: عودة الموتى، الشبح القاتل، أنياب في الظلام، القصر الملعون، أي عنوان سوى عنوانك المستفز هذا: "إنه يأتي في الليل"!

"الليل حالك وحافل بالهول" كما تقول الكاهنة "ميليساندرا" في ملحمة أغنية الجليد والنار، وقد كان المُشاهد على استعداد تام لأن يأتي أي شيء في الليل، لكنه لم "ير" أي شيء "يأتي".

كانت هذه هي النقطة التي أزعجت الكثيرين ممن شاهدوا الفيلم. كانت هناك عشرات الاحتمالات لأهوال خارجية يمكن أن تحاول أن تأتي في الليل، لكن المخرج تفنن في ألا "يُخرج" أي شيء من قلب الليل، بل في أن يُدخل الليل بأهواله كلها إلى قلوبنا.

ربما كان الوباء القاتل -أو غيره- يحوم في الخارج ليلاً، لكن الليل الحقيقي كان في الداخل معنا دائماً، في عتمة البيت لا في عتمة الغابة، في غابات وأنفاق أنفُس "الأبطال" الذين لم يُسمح لنا أن نرى أحدهم قط في نور الوضوح، ليل البشرية الحقيقي ربما لن يبدأ حقاً بوباء أو بغزو أو بكارثة بيئية، ربما ستكون البداية الحقيقية هي ما سيتكشَّف في غياهب نفوس البشر حينذاك، حين تؤذن شمس الحضارة -والتحضر- بالغروب، حين تتهاوى ركائز إنسانيتنا تباعاً ونحن نواجه الجوع والمرض والخطر، حينئذ ستعود لليل هيبته الحقيقية التي سلبتها منه قرون من الحضارة البشرية والإنارة الصناعية، حينئذ فقط سيأتي الليل الحقيقي، ومعه سيأتي كل شيء!

الجزيرة الوثائقية

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
أمير العِمري
كاتب وناقد سينمائي مصري
ناقد وكاتب وباحث ومُحاضر سينمائي معروف، وُلد بمصر، ويقيم ويعمل في لندن. تخرج في كلية الطب بجامعة عين شمس، ودرس الصحافة والتلفزيون. نُشرت له عديد من الأبحاث والكتابات المتعلقة بالسينما بلغات عدة، منها الإنجليزية والإسبانية والإيطالية.
تحميل المزيد