كيف تحولت إلى أرض فقيرة هكذا!.. عن حكايات الصومال مع الحروب والتاريخ

عربي بوست
تم النشر: 2018/06/20 الساعة 10:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/06/20 الساعة 10:28 بتوقيت غرينتش
Dadaab , Kenya - August 14, 2011: Somalian children refugees fetch water at the new Ifo-extension in Dadaab on August 14, 2011. The new site opened to some 5,000 refugees among an ever swelling number of Somalia's people coming into the Dadaab refugee complex in Kenya's north-easterly province. The Ifo extension, which will provide tented accommodation to 90,000 refugees by the end of November, had been prepared several weeks ago but its opening was delayed owing to opposition from Kenyan government ranks citing a threat to the national security.

الصومال وطن تلفّه التاريخ وتحيطه المحيط والحروب، الأنهار تداعب جبينه، والمناطق الأثرية تستقبل زواره مع لمسات استوائية مميزة، روائح الثقافة عابقة في أزقة مساجده الشاهدة على الحضارة الإسلامية العريقة، والمدن القديمة تشكل صندوقاً مليئاً بالأسرار وماضي أمة كانت همزة وصل بين إفريقيا والبلاد العربية وما وراءها من البلدان والشعوب.

وصل العرب إلى الصومال عبر موجات متتالية من البشر منذ انهيار سد مأرب، وبعد بزوغ فجر الإسلام توثقت أواصر العُرى بينهم وبين سكان ساحل الصومال فأسسوا الممالك والمدن والمراكز التجارية، وبنوا القلاع والموانئ وانسجموا مع القبائل، وانتشرت ثقافتهم وحضارتهم وسادت فنونهم، وبذلك أثّروا على اللغة والملامح والتركيبة السكانية، وفي غضون سنوات قليلة ذابوا في المجتمعات المحلية وباتوا عنصراً مكوناً من اللوحة الصومالية.

على أطلال حيّ شنغاني في مقديشو تحيطني جروح لا تندمل، وانهزمت أمام أطلال التراث الصامد، قصور السلاطين على كتف المساجد، ومتاحف تقبّل الرمال، وذكريات الرحالة كريستوفر كولومبس، وكتابات ابن بطوطة، وآثار المؤرخين والكُتّاب الذين مرّوا على بلاد بونت وهم يبحثون مجد الكلمة أو متعة السياحة في أجواء مقديشو "ساحرة شرق إفريقيا"، فهربتُ أداوي جروح الحروب بالكتابة رغم صعوبة نسيان ذكرياته المترسخة في الذاكرة الجمعية للشعب.

كلما توغلت اقتربت من معالم قديمة، وشوارع اختفت، وتراث طمره النسيان، وملامح مآسٍ بامتداد مقديشو، ويبدو المحيط الهندي على صفحة الأفق وكأنه يراقب مدينة تنام على وقع الانفجارات وتصحو على دوامة سحب الثقة من أحدهم، وإذا توغلت في الحس الشاعري والهوية الحضارية المميزة لـ"حَمَرْ" سترى طلاً من ابتسامة تبرز بعض مفاتنها وإن علاها غبار ثلاثين سنة كان خنجر الفرقاء مغروساً في جسدها.

نحو العبور إلى تاريخ طمستها المعارك، وأمام مقر البرلمان الصومالي الذي يعاني من تضاريس الأزمنة تعيدني مقديشو إلى بداية السبعينيات من القرن المنصرم، المبنى الشامخ شهد مؤتمر القمة الإفريقية عام 1974م وضمّ في جدرانه زعماء إفريقيا العظام قبل أن تنال يد الغدر وتحوله إلى أطلال باكية وثكنات للجيوش المتصارعة على المدينة.

في تلك الحقبة كان الصومال مزدهراً ويشهد جهوداً حثيثة من أجل اللحاق بقطار التقدم والاكتفاء الذاتي، تصدّر العساكر في الجمهورية الثانية وانغمسوا في السياسة بعد دولة مدنية ينخرها الفساد ويقودها الدستور، في الوهلة الأولى بدا الجيش وكأنه يلبّي مطالب الكادحين، تضافرت الجهود وتكاتفت جميع فئات الشعب من أجل صومال جديد، فبدأت موجات البناء وإنشاء التعاونيات والمشاريع الوطنية التي ما زالت ماثلة إلى يومنا هذا.

حكومة العساكر لمست الوتر الحساس للشعب عندما ركزت الجوانب الثقافية والتوعوية والتاريخية، نفضوا الغبار عن تاريخ الأبطال، وألّفوا الأغاني، ونظموا الأشعار لدغدغة المشاعر، وبعد قطع أشواط نحو التطور ودولة تواكب العصر وتستطيع استعادة استقلال قرارها حدثت نكسة غيّرت البوصلة! العساكر اختاروا الأيديولوجية الشيوعية ومحاربة الأصالة والهوية الدينية المترسخة في الوجدان، ومن أجل تعميق الماركسية في أوساط الشعب أصدروا قوانين مجحفة بحق الدين، فبدأ صراع العلماء والسلطة، ودارت مساجلات فكرية وثقافية تطورت إلى إعدام العلماء وإراقة الدماء!

كانت خطوة جريئة نحو الانهيار تَعَمّق بعدها الشرخ بين الشعب والحكومة الصومالية الاشتراكية، وتوقفت عجلة الاقتصاد، وضاع الشعب، وفقدت الدولة هيبتها على القلوب وسيطرتها على الأرض، وبعد سنوات من إعدام العلماء والهزيمة المؤلمة في جبهة أوغادين عام 1977م بدأت المعارضة المسلحة تشن حروباً على الدولة، وبين انتهاكات الدولة البوليسية وعمالة الجبهات المتمردة ضاع الوطن، لقد دمرته الحروب وبقي تاريخه دفيناً تحت عباءة القبلية وركام المعالم وغباء المهووسين بالحكم، وقصص شفهية لشعب توّاق إلى السلام ونشر المحبة بعد عقود من الإرهاب والكراهية.

على بُعد أمتار قليلة من مجلس الشعب يطل تمثال ثائر الصومال السيد محمد عبدالله حسن بهامته الممشوقة وتقاسيمه الدقيقة، السيد ورفاقه الأشاوس الذين قادوا الجموع نحو الحرية والكفاح المسلح في زمن كان الوعي فيه السياسي الصومالي في أدنى مستوياته واجهتهم مصاعب جمّة كتفكك الوطن، وتأليب الرأي العام واغتيال المعنويات عبر وكلاء الاحتلال، وعدم الحصول على الأسلحة والذخائر بسبب الحصار الأوروبي المفروض على السواحل الصومالية، ورغم ذلك حاربوا الترويكا المحتلة (بريطانيا، إيطاليا، فرنسا) إضافة إلى الحبشة، وكبّدوهم خسائر جسيمة طيلة عقدين كانت نار الجهاد تومض على ربوع القرن الإفريقي.

في بداية عهده مارس الاستعمار حيلته المعهودة في ابتلاع الأمم والأراضي: توقيع الاتفاقيات المجحفة مع السلاطين وأعيان القبائل، في تلك الحقبة كان معظم الزعماء يعتقدون أن الاتفاقيات مع الدول الكبرى تحميهم من الأطماع والحروب المحلية، ولكن كان للمحتل أطماع اقتصادية وسياسية ودينية أكبر بكثير مما عرفه السلاطين، حيث كان يطمع في التهام الصومال واستعباد شعبه ونهب ثروته ونشر المسيحية تحت بند أحقية الدول الأوروبية في أن يكون لها الحق في احتكار التجارة ورسم السياسة ونشر الثقافة والتعاليم النصرانية في المقاطعات المستعمرة.

استهدفت ثورة الدراويش محاربة الغبن السياسي والأفكار الانهزامية التي بُثت في أوساط الشعب، فشنوا هجوماً عنيفاً على جيوش الإمبريالية والقبائل الموالية للمحتل لإجبارهم على الانسحاب من  الاتفاقيات والانضمام إلى جحافل المناضلين، نجحت الثورة في رد الاعتبار وتحرير العقول من الأغلال، وبعد سنوات من الكفاح استطاع الأوروبيون هزيمة ثورة الدراويش عسكرياً بعد قصف قلعة تليح معقل الحركة فبراير/شباط عام 1920م، ولكن لم يستطيعوا هزيمتها تاريخياً وتراثياً؛ لأنها غرست الوطنية والإيمان في قلوب الصوماليين، وأعادت لهم الثقة، ووحّدتهم بعدما كانوا قبائل متناحرة وبطوناً متصارعة لا هدف لهم سوى الإغارة على القبيلة المجاورة، وبذلك تغلغلت في أوساط الفن والثقافة والأدب والوجدان الذي ما زال يغني بأمجادها ويعدد مآثرها ويعتكف على دراسة تاريخها بعد مرور حوالي قرن من استخدام بريطانيا الأسلحة البيولوجية ضد الثوار في هُرشَكَح وغيرها من الأماكن.

لقد عبأت الدروايش المجتمع الصومالي عبر الأشعار والخطب والانتصارات وتطبيق الشريعة الإسلامية حسب استطاعتها، ورسمت له سياسة بعيدة عن القبلية والقناعة بالذل والخضوع للقوى الخارجية، وقادتهم نحو الحرية ومقارعة المحتل واستعادة الأراضي المفقودة والكرامة المهدرة.

في منطقة أرخى فيها ليل الحرب سدوله تبقى الذكريات الجسور العابرة إلى الأمل والحياة، على شمال الطريق مبانٍ صامتة وأخرى تترنم بأغاني الماضي وألحان السلام، تجاوزتُ تمثال الدرويش بمزيد من المرارة والألم، كان رائداً لشعب معادٍ لنفسه، وموبوء بالخلافات القبلية وأراد أن يعيش ذليلاً وعلى هامش التاريخ رغم ما يملكه من المصادر والموارد والحضارة.

عند تقاطع التاريخ بالطرق المنهارة كنت ضيفاً على الحسرة مرة أخرى! فوق ربوة قليلة الارتفاع في كيلومتر 4 يبرز تمثال أحمد جُري المجاهد الذي نشر الإسلام، وحمى المقدسات الإسلامية من العبث، وقاوم ضد الاستعمار البرتغالي والحبشي.

الصوماليون لا يملّون عن الارتحال ونشر الدعوة والتجارة العابرة للقارات، كانوا رعاة يسيرون وراء الماء والكلأ، وجحافل يأتون من سهول الأعماق إلى مرتفعات الحبشة غرباً، وسهول السافانا جنوباً. ومنذ أن تمازجت القوميات في شرق إفريقيا كانوا يحملون لواء الإسلام، ويواجهون المخاطر بابتسامة لا تفارق محياهم.

في الصباح الباكر وقبل أن تبدأ الزحمة يبدو التمثال كئيباً تحت واقع الصومالي الحزين.

ورغم اختفاء المجسم إبان سنوات الحروب فإن روحي تتحدث مع أحمد الغازي بشجن، نظرتُ إليه وأنا أخجل من مواجهة من كانت الشجاعة عنوانه.

 أذهلني الوضع وأسكتتني الفواجع! عجزت النساء أن يلدن مثله، نعاني من شح في القيادة الحقيقية وابتلينا بأقزام همّهم ملء الجيوب وتلميع صورة العدو الخارجي!

ضحك البطل بخشونة يؤنبني ويحدثني عن عصره المليء بالفتوحات والملاحم ومقارعة الأعداء، "أما أنتم فأصبحتم في ذيل الأمم! ماذا فعلتم بأنفسكم؟ لماذا رضيتم أن تكونوا أداة في أيدي الأعداء؟ تتقاتلون من أجل القتل وإرضاء أسيادكم من الشرق والغرب؟ عجيب أمركم يا أحفادي، في هذا التوقيت الحرج أمامكم خياران لا ثالث لهما، إمّا صوت العقل والمصالحة الشاملة والتعايش على أرضكم متماسكين، أو التعمق في الجرح النازف والتمادي في طريق العار، بقّروا البطون ويتموا الأطفال ولعنات الأجداد تلاحقكم"!

كانت مشاعر الأسى تتدفق عبر شرفات المكان والزمان، وأنا أحثّ الخطى نحو ضاحية مقديشو حيث تحيط بنا حقول الموز ومزارع المانجو والفواكه على ضفاف نهر شبيلي. الخضرة لا تأخذ الابتعاد عنا، بل تقترب ونحن في طريقنا إلى القرى المتناثرة على أهداب الأنهار والمستنقعات الجنوبية في سهول وامُوْ.

أصوات الأطفال تخترق الأجواء المشحونة بتقاليد الريف، الصبيان رائعون ويبدو من بشرتهم آمال تعانق السماء وهم يتدفقون من البيوت الطينية والمدارس القرآنية، ورغم التقارير المهولة للأمم المتحدة حول الصومال، فإن القاطنين في القرى المحاذية للطريق يعيشون حياة جميلة، وسعادة ملامحهم الذائبة في السمرة والأوراد الصباحية كانت مذهلة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
حسن قرني
كاتب صومالي
حسن محمود قرني، كاتب من الصومال، يهتم بالأدب والتاريخ، خريج جامعة إفريقيا العالمية بالسودان كلية العلوم قسم الجيولوجيا، صدر لي كتابان «جنوباً ما وراء السافانا»، و«غوري». ولي كتابان تحت الطباعة: «الصومال.. حكايات الحروب والتاريخ» ومجموعة قصصية.
تحميل المزيد