الفرق بين المنتخب المصري أيام مبارك و الآن.. لماذا يجب على محمد صلاح أن يلعب دوراً أكبر من كرة القدم؟

عدد القراءات
2,804
عربي بوست
تم النشر: 2018/06/19 الساعة 12:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/06/19 الساعة 12:15 بتوقيت غرينتش

آخر مرة شاهدت فيها مباراة كرة القدم من البداية إلى النهاية كانت المباراة التي جمعت بين المنتخب المصري ونظيره الهولندي في 12 يونيو/حزيران من عام 1990 ضمن فعاليات كأس العالم في إيطاليا في ذلك العام.

كان عمري حينئذ 13 عاماً، وكنت أتابع المباراة على شاشة تلفزيون غرفة المعيشة الصغير بمنزلنا في القاهرة برفقة أقربائي الأكبر منّي سناً وأصدقائهم في مجموعة من 20 مصرياً وهولندي من أصل مصري واحد.

كان ولاء مجموعتنا منقسماً بشدة بين كلا الفريقين، وتلك كانت أول مرة تشارك فيها مصر في كأس العالم منذ 56 عاماً.

مصر دولة كبيرة، يبلغ تعداد سكانها 95 مليون نسمة. وكما هو الحال في أغلب دول قارة إفريقيا، فإن كرة القدم هي اللعبة الوطنية في مصر، وهو ما يظهر جلياً في الشوارع في أيام مباريات الدوري المهمة؛ إذ تجد الغالبية العظمى من المصريين يشجعون كرة القدم، صحيحٌ أن الكثيرين منهم ينقسمون بين الفريقين الأشهر في مصر: الأهلي والزمالك، لكنهم جميعاً يجتمعون على تشجيع المنتخب الوطني.

لقد نشأت وترعرعت في القاهرة، في آخر الشارع الذي يضم مقر النادي الأهلي. كانت كرة القدم بالنسبة لي مقوماً لا غنى عنه من مقومات الحياة اليومية تقريباً؛ إذ كانت في الراديو، والتلفزيون، وأحاديث المحيطين بي طوال الوقت.

كان الجميع يسألونني عن الفريق الذي أشجعه دائماً وأبداً، وكان الاعتقاد السائد طوال فترة حكم الرئيس حسني مبارك، التي دامت قرابة 30 عاماً، هو أن كرة القدم قادرة على احتواء المعارضة السياسية، على الأقل داخل البلاد. لذلك، حرص الرئيس السابق محمد حسني مبارك على إنفاق مبالغ طائلة لرعاية المنتخب الوطني ودعم صورته وتحسين احتمالات فوزه، لدرجةٍ وصلت معها المنافسة الطويلة بين المنتخبين المصري والجزائري إلى الشغب وتطلَّبت تدخلاً من الدبلوماسيين في عام 2009.

على أنني، وبشكل ما، لم أكن من المتحمسين لكرة القدم إلى هذه الحد، ولا أخي أيضاً. ولعل ذلك قد جاء نتيجةً لتعلمنا في مدارس بريطانية (تفضِّل لعبة الرغبي)، أو لعله جاء نتيجة لغياب والدنا المتعصب لكرة القدم عنَّا (لأنه كان مقيماً خارج البلاد) ولا مبالاة والدتنا بالرياضة عموماً.

لكن لا شك أن تأهّل مصر لكأس العالم في العام الجاري مدعاةٌ للاحتفال، سواءٌ بمحمد صلاح اللاعب المصري البالغ من العمر 25 عاماً الذي قاد فريق ليفربول الإنكليزي إلى نهائي دوري أبطال أوروبا محرزاً رقماً قياسياً في الموسم المنصرم بتسجيل 32 هدفاً، أو بدونه. إلا أن انضمامه إلى المنتخب المصري، المعروف بمنتخب الفراعنة، قد جعل منَّا جميعاً عاشقين لكرة القدم.

ها هي مصر تشارك في كأس العالم مرة أخرى، بعد مرور 28 عاماً، وها هي الملصقات واللافتات الإعلانية ترتفع عالياً في العديد من شوارع القاهرة الرئيسية احتفالاً بفراعنة مصر، ويطغى اسم محمد صلاح وصورته على ملابس الناس بالطبع، وعلى أبواب المحلات التجارية والمنشورات الإعلانية لمتاجر الأغذية، بل وحتى على صندوق دفع النقود بمحل التنظيف الجاف في الحي الذي أقطن فيه. ومع أنَّ محمد صلاح لم يشارك في المباراة الأولى لمصر بكأس العالم، التي أُقيمت يوم الجمعة الماضي، 15 يونيو/حزيران 2018، بسبب إصابته، ومع أنَّ المباراة انتهت بخسارة مصر أمام أوروغواي 0-1، فإنَّ المشجعين قد أطلقوا أبواق سياراتهم في الشوارع ولوَّحوا بالأعلام المصرية من نوافذ سياراتهم فرحاً بهذه المناسبة.

أمَّا أنا، فقد عرفت عن محمد صلاح من أخي المحايد رياضياً في وقتٍ سابق من العام الجاري 2018، حين سمعته صدفةً يتبادل الحديث مع صديقه بحماسة (ربما نظراً إلى كونه بريطانياً مسلماً من لندن) حول هتاف مشجعي فريق ليفربول البريطاني باسم محمد صلاح الذي يقول: "مو صلاح (اختصار اسمه) لا لا لا لا لا، إذا كان بارعاً في نظرك، فهو بارع في نظري أيضاً. وإذا سجل المزيد من الأهداف، سأصبح مسلماً مثله قريباً". كان صديق أخي ذلك أميناً لأحد المعارض الفنية ومؤرخاً فنياً، لذا كان متطرفاً في نقده في أكثر الأحيان. لكنه حين كان يتبادل ذلك الحديث مع أخي، كان يهتف مسروراً بأنني "حتماً" يجب أن أكتب عن حصول المتحف البريطاني على مجموعة "مذهلة" من أحذية كرة القدم الخاصة بمحمد صلاح، وعرض المتحف إياها إلى جوار تمثال نصفي ضخم للفرعون رمسيس الثاني. ليس هذا فحسب، بل إن إحدى قريباتي أصبحت تمطر مجموعة الدردشة الخاصة بعائلتنا على تطبيق واتساب بوابلٍ من المنشورات اليومية عن محمد صلاح بعد أن كانت تتنصل من الحديث عن كرة القدم بسبب هوس زوجها بها.

وبصفتي من غير المشجعين لكرة القدم، راقبت العديد من غير المشجعين الآخرين الأكثر تزمتاً منّي يتحولون إلى مشجعين متحمسين؛ لذا فمن العسير ألَّا أفكر في كل هذه الإثارة حول محمد صلاح من ناحيةٍ رمزية سياسية؛ وفي المقام الأول، فيما يمثله محمد صلاح للجانب الآخر من التيار الشعبوي المحافظ الذي طغى على أوروبا والولايات المتحدة، ولا سيما في الوقت الراهن، في ظل انتشار الخطاب الغربي المناهض للهجرة وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والحظر الذي تفرضه البلدان الغربية على دخول المسلمين. يُعَد محمد صلاح من بني الأقليات لأنَّه مهاجرٌ مسلم مصري، ومع ذلك يلتف الكثيرون حوله ويشجعونه، فضلاً عن أن موهبته الفذة تُبدد أي تعصب أو تحامل لدى الآخرين ضده.

وبصفتي مصرية، يتعذر عليَّ ألَّا أنظر إلى محمد صلاح في ضوء ثورة عام 2011. صحيحٌ أنَّه لا وجه للمقارنة بين مشاعري آنذاك ومشاعري الآن، بيد أنَّ آخر مرة شعرت فيها بالحماسة إلى هذه الدرجة، والرغبة في النزول إلى الشوارع ورفع علم مصر -وهي المشاعر التي يثيرها فينا محمد صلاح اليوم- كانت في الأيام الأولى من الثورة وفي أثناء الانتخابات الأولى التي أعقبتها في العام التالي 2012. ولكن منذ ذلك الحين، ظلَّت خيبات الأمل تتوالى علينا وتشتد؛ مما ولَّد لدى المواطنين شعوراً بالإحباط والاستسلام، وتهميش رأيهم في الاتجاه الذي تسير فيه البلاد، وهو عكس ما كنَّا نشعر به أيام الثورة.

نشأ محمد صلاح في أسرة متواضعة من الطبقة العاملة بإحدى قرى الريف المصري التي تبعد عن القاهرة 128 كيلومتراً. ولم يكن بالقرية مركز طبي حقيقي ولا سيارات إسعاف، إلى أن تبرع محمد صلاح بالمال لتوفيرهما، وفقاً لما أوردته بعض التقارير.

ولا شكَّ أنَّ محمد صلاح بطلٌ ورمز، لكن لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يعيد لنا ما خسرناه حين تحطمت آمالنا في الثورة. مع ذلك، فهو كترياقٍ يشفينا من الضربات السياسية المتوالية التي تنهال على بلادنا بلا هوادة، فضلاً عن أنه يعطي الناس شعوراً بأنَّ كل شيء ممكن، ولا سيما الشباب المصريين الذين ينحدرون من خلفيات مشابهة له؛ فلطالما كان لاعبو كرة القدم يتمتعون بشعبية نجوم الغناء في مصر، فضلاً عن أن قصة محمد صلاح هي قصة النجاح المثلى، وليست مجرد قصة عن الشهرة والثراء.

 لذلك، ثمة اعتقاد سائد بين الناس أنه في حال ترشُّح محمد صلاح لأي منصب سياسي، قد يفوز بالانتخابات.

ولعل هذا هو سبب استغلال الآخرين لصورته أحياناً؛ ومن بين الأمثلة الصارخة على ذلك ما حدث في معسكر تدريب المنتخب المصري في الشيشان إبان مطلع الشهر الجاري يونيو/حزيران، إذ أفادت تقارير بأنه كان يأخذ قيلولة، واستيقظ لالتقاط صورة برفقة رمضان قديروف حاكم جمهورية الشيشان المستقلة إحدى جمهوريات روسيا الاتحادية. ليس هذا فحسب، بل انتشرت في الصحف المصرية ووسائل التواصل الاجتماعي أيضاً صورة لمحمد صلاح يصافح فيها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بعد انتهاء الموسم الذي حقق فيه أرقاماً قياسية. وعندما استعانت إدارة مكافحة المخدرات المصرية بمحمد صلاح ليكون وجه حملتها الإعلانية بالفيديو في أبريل/نيسان الماضي، حققت صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي ما بلغ مجموعه 8.4 مشاهدة في 72 ساعة فقط. لا شك في أنَّ الدولة تستغل نجاح محمد صلاح، لكنَّ نتائج ذلك ليست مشؤومة بالضرورة: فهو قوة موحِّدة حقيقية للشعب، والشيء الوحيد الذي يبدو أن المصريين جميعاً يستثمرون فيه.

ومع ذلك، لا يُعلن محمد صلاح توجهه السياسي؛ فهو يقول إنَّه يلعب في صفوف المنتخب الوطني من أجل المصريين، وليس مصر، لكنه يملك نفوذاً هائلاً بلا شك، وهذا النفوذ نابعٌ من كونه يخترق الواقع الأليم الذي ظهر نتيجة إخفاق الثورة، تماماً مثلما اخترقت الثورة عقوداً طويلة من الخمول والجمود.

 إنَّ النجاح الذي يحققه محمد صلاح قد لا يصلح حال الوطن بالضرورة، لكنَّه يقدِّم مهرباً من اللحظة الراهنة وتاريخ البلاد الطويل الحافل بخيبات الأمل السياسية.

وسواءٌ أفُزنا أم خسرنا في المباراة ضد المنتخب الروسي اليوم الثلاثاء، 19 يونيو/حزيران 2018، سيظل وجود محمد صلاح بحد ذاته نصراً للمصريين؛ فبحسب تعبير مشجعي فريق ليفربول: "محمد صلاح هبة من الله".

– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The New York Times الأميركية.  

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
ياسمين الرشيدي
كاتبة مصرية
تحميل المزيد