عبارة "اتبع شغفك" Follow your passion أصبحت شعاراً لكثير من المقالات عن النجاح.. معظمها يبيع الوهم ويلعب على ضجر الناس من عملهم اليومي، ورغم أن معظم الناس لا يتبعون هذه النصيحة على أي حال، فإنها على الأقل تجعل حياتهم أكثر ضجراً ومللاً حزناً على الشغف المفقود!
في هذا المقال أحاول فصل الوهم عن الحقيقة فيما يسمى بالشغف، ومتى تعرف أن "شغفك" بمجال معين هو شغف حقيقي يستحق المخاطرة؟
كثير من تلك المقالات تفترض أن الإنسان يولد بشغف محدد، وأن لكل إنسان شغفاً في مجال معين لن يبدع في سواه، سمعت أحدهم يقول مرة: "لقد وُلدت لأكون مصوراً فوتوغرافياً".. حقاً؟.. ماذا كان يفعل هؤلاء المساكين الذين وُلدوا بشغف التصوير قبل اختراع الكاميرا إذن؟!
الإنسان يولد صفحة بيضاء، قد تساعده بعض الصفات الجينية على التفوق في مجال أكثر من مجال آخر أحياناً -مثل طول القامة للاعبي السلة- لكن هذا في حالات قليلة.. معظم البشر قادرون على التفوق في معظم المجالات إذا تم تقديمهم للمجال بشكل صحيح وبتدريب مناسب في الوقت المناسب.
البيئة التي نشأت فيها والتعليم الذي تلقيته -أياً كان مصدره- له العامل الأكبر في تشكيل قدراتك، وبالتالي تحديد ما يمكنك التفوق فيه.. لماذا يصادف أن عدد طوال القامة الشغوفين بلعبة كرة السلة أكثر من عدد قصار القامة الشغوفين بها؟!.. هذا لأنها ليست مصادفة!.. الناس يصيبها الشغف فيما تظن أنها قادرة على تحقيق النجاح فيه!
وهذا هو الشغف الحقيقي عند كل البشر؛ شغف النجاح والتفوق.. صعب جداً أن تجد شخصاً متفوقاً في مجال معين دون أن يكون على قدر كبير من الحب لهذا المجال، معظمهم لم يختَر المجال لشغفه به، بل لأن ظروف البيئة والمجتمع، والظروف الشخصية، والقدرات المتاحة هي التي جعلته يختار المجال وربما كان يفضل دخول مجال آخر في البداية!
هذه النقطة تحتاج توضيحاً أكثر؛ لذا دعني أوضّح باستفاضة، أكثر من مرة أرى نجاراً بعد أن انتهى من قطعة أثاث معينة يجلس للاستراحة على كرسي أمامها يشرب الشاي متأملاً بإعجاب ما صنعت يداه، هذا فعل يتكرر في كثير من الحرف، وليس في النجارة فقط، دعني أؤكد لك أن هذا النجار لم يدخل مجال النجارة عن شغف، بل اضطرته الظروف لذلك غالباً.. وربما أجبره أهله عليها صغيراً بعد ترك المدرسة، وهو صغير كان يهرب من الورشة ليلعب الكرة.. شغفه الحقيقي كان لعب الكرة، لكنه لم يصبح لاعب كرة، أصبح نجاراً يستمتع بعمله.. رغم التعب والملل الذي يواجهه في مراحل كثيرة من تنفيذ العمل!
في كتاب So good they can't ignore you يتحدث المؤلف عن شيء كهذا.. في الواقع هو يستخدم لفظة "حرفي craftsman" كاسم لطريقة التفكير البديلة التي يطرحها لعقلية "اتبع شغفك".
عقلية "اتبع شغفك" بها عدة مشاكل.. أذكر منها ثلاثاً:
1 – أنها تفترض أن كل إنسان له شغف واضح مكتسب أو مولود به، وهذا ببساطة غير صحيح، معظم الناس لا يعرف ماذا يحب أصلاً! لكن الأهم أن هؤلاء الذين يظنون أنهم يعرفون ما هو شغفهم -معظمهم وليس كلهم- واهمون، فالبعض يظن أن الشغف هو مجرد الاهتمام والإعجاب بمجال آخر، وهؤلاء قد يغيرون "شغفهم" كل عدة أشهر؛ لذلك بدلاً من نصيحة "اتبع شغفك"، النصيحة الأفضل هي "استكشف شغفك" أو الأفضل "اصنع شغفك"!
2 – أنها تبيع وهْم "أنك بمجرد أن تعمل في مجال شغفك فلن يكون هناك ملل أو ضجر"، ويرددون المقولة الشهيرة:
Do the work you love and you will never have to work a day in your life
وهي غير صحيحة بالمرة.. الأعمال الجميلة الرائعة لا تخرج إلا بعد صراع طويل وجهد وكثير من الملل والشك، أي مجال ستجد في بعض أجزائه قدراً لا بد منه من الملل؛ لذلك يقولون: "الهواة ينتظرون قدوم الإلهام لبدء العمل، أما المحترفون فيبدأون العمل على أي حال"!
أنت بالتأكيد ستصبح في حال أفضل إن عملت في مجال تحبه عن مجال تكرهه، لكن الحياة لن تكون "ضحك ولعب وجَدّ وحب" طوال الوقت!
3 – إن عقلية "اتبع شغفك" بها قدر كبير من الأنانية، فهي تجعل الشخص يضع كل تركيزه فيما يحب هو ويتجاهل ما يستطيع تقديمه للعالم (إصلاح الأرض).. انظر لملايين من الشباب الشغوفين بالغناء والتمثيل ولعب الكرة، كل هؤلاء يحلمون أن يصيروا نجوماً، مع أنهم يستطيعون إفادة العالم بشكل أفضل في مجالاتهم التي لا تتضمن قدراً كبيراً من الشهرة والنجومية!
هذه النقطة هي من الحاجات التي جعلتني أغيّر اتجاهي قليلاً في مجال أحبه وهو "برمجة الألعاب"، أنا أحب برمجة الألعاب فعلاً وقمت بعمل عدد لا بأس به منها، لكنني منذ فترة قررت أنه إما أن أصنع ألعاباً لها فائدة -مثل الألعاب التعليمية مثلاً- أو أن أستغل مهاراتي في البرمجة والتصميم في شيء آخر.
كيف تعرف أن شغفك حقيقي يستحق أن تتبعه فعلاً وليس مجرد وهْم مؤقت؟
الشغف يكون حقيقياً إذا قمت بالفعل ببذل الوقت والجهد في تتبعه بالرغم من ارتباطك بمسؤوليات أخرى.
الشغوفون بمجال آخر يعملون فيه ويطورون أنفسهم بالرغم من ارتباطهم بعمل حاليّ يأخذ معظم ساعات اليوم ولا يتحججون بأنه ليس لديهم ما يكفي من الوقت والجهد لتتبع الشغف أثناء ارتباطهم بالوظيفة الحالية، هم يوجدون الوقت لذلك، وبعد أن يصلوا لقدر معين من النجاح والتطور في المجال الشغوفين به، يكونون مستعدين لأخذ المخاطرة وتغيير المجال أو ترك الوظيفة.. لكن ليس قبلها!
لأن العمل في مجال الشغف يكشف لك الحقيقة أكثر؛ يكشف لك مكامن الصعوبة التي يُخفيها عنك شغفك بالمجهول وضجرك من واقعك الحالي.
إن كان تصفّح الفيسبوك بالساعات ومشاهدة الأفلام والمسلسلات أحب إليك من العمل على شيء تدعي "شغفك" به، فهو في الغالب ليس شغفاً حقيقياً؛ لذا لا داعي للأفورة.. لا تحزن على وَهْم!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.