إن دور السينما في المجتمع لا يقف فقط عند كونها شاشة يتحرك خلفها ممثلون يؤدون أدواراً كتبت لهم في سيناريو العمل، إنما كان دور السينما المصرية منذ بدأت هو نقل المشكلات التي يعاني منها المجتمع بصفة دائمة؛ حيث يتنافس المؤلفون على أن يخرج كل منهم بعمل يمس إحدى المشاكل الكبرى في حياة المواطن، والتي بدورها تجعل العمل واقعياً غير مبتذل أو مختلق لمشكلة جديدة لم يشهدها الشارع المصري من قبل.
قضية العمران من أبرز القضايا التي تشهدها مصر؛ حيث شهد العمران تبايناً كبيراً خلال فترات زمنية متقاربة، حيث مثّلت تلك القضية وجبة دسمة للسينما المصرية، مما يجعل سيناريو الفيلم لا يبعد كثيراً عن الواقع، بل هي قضية تمس الحياة اليومية للفرد في مجتمعه، فالمواطن يبدأ يومه من العمران، وينتهي يومه إليه، بل إن العمران هو أحد العوامل الشاهدة على تاريخ حضارة أية أمة، وعاملاً رئيسياً في تكوين حضارتها الحاضرة والمستقبلية، وأن عَظَمة الحضارة الفرعونية المصرية تتمثل في تلك المعابد والمقابر المشيدة منذ آلاف السنين، ولقد مر العمران المصري على مر عصوره بتنوع في الأشكال والطرز المعمارية، وانتقل من ازدهار إلى ازدهار تلاهما اضمحلال تام في البيئة العمرانية، إلى أن ازدحمت العاصمة، وظهرت المناطق العشوائية ومساكن الصفيح وإسكان المقابر، ذلك الاضمحلال الذي كان بفعل عدة عوامل لعبت فيها الحكومات المتعاقبة دوراً كبيراً من الإهمال والفساد نتج عنه العديد من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، حاولت السينما المصرية نقلها وتنافس العديد من الأعمال على نقل الصورة كاملة، لكن معظمها نقل المشكلة كما هي دون طرح الحل المناسب.
أبرز تلك الأفلام التي ناقشت قضية العمران هو فيلم "صرخة نملة" عام 2011، الذي قام بدور البطولة فيه الفنان عمرو عبدالجليل؛ حيث جسَّد الفيلم حياة قاطني مثلث ماسبيرو -المشكلة العمرانية الأكبر على الساحة الآن والمنطقة التي يتسابق عليها رجال الأعمال لشرائها، وقضية العمران بتلك المنطقة وتباين الحياة العمرانية لسكان تلك المنطقة والأبراج المحيطة بهم "أبراج نايل سيتي"، اعتمدت مشاهد الفيلم الرئيسية على لقطات تلك المناطق المتهدمة وغير الصالحة للحياة في لقطة واحدة مع أبراج نايل سيتي، الفارق الكبير بين تلك المناطق وتدني مستويات الخدمات والبنية الأساسية الذي ولَّد العديد من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية لدى سكان المنطقة الفقيرة أولها الفقر، والذي بدوره ولَّد لدى السكان الشعور بعدم الانتماء للدولة التي تركتهم في فقرهم وقطعت عنهم المياه والكهرباء لصالح جيرانهم الأغنياء، ذلك الشعور الذي عبَّر عنه بطل الفيلم في جملته "البلد دي مش بلدنا، البلد دي ليها أصحاب، نخرس بقى بدل ما يرحلونا"، ناقش الفيلم أيضاً أسباب تخلّف تلك المناطق عن المناطق المحيطة وجسدها في فساد الحزب الوطني الحاكم وقتها ووعود نواب مجلس الشعب لهم وإخلافها وفساد الوزراء، وعن قصة الفيلم قال المؤلف طارق عبدالجليل: إن الأحداث تدور حول صرخة فئة كبيرة من الشعب تمت الإشارة لهم بـ"النملة"؛ حيث يعانون من الأزمات ولا يجدون مَن يسمع لهم وهو ما يؤدي إلى اتحادهم وثورتهم ضد الظلم.
من الأفلام التي سلّطت الضوء أيضاً على قضية العمران هو فيلم "حين ميسرة" للمخرج خالد يوسف وبطولة عمرو سعد، الذي نقل صوراً مجسَّدة لمساكن الصفيح وحياة أهلها ومعدلات التزاحم العالية داخل الغرفة الواحدة، وسوء الحالات البنائية لجميع المباني التي ظهرت في الفيلم، انتقلت الكاميرا بين ثنايا وربوع العشوائيات من القاهرة وعششها، مروراً بحركة القطار إلى الإسكندرية وأطفال الشوارع الناتجين من تلك القضية، كما ركز الفيلم على المشاكل الاجتماعية الناتجة عن قضية العمران وتحديداً أن تلك المناطق تكون ملجأ للهاربين من العدالة وبؤراً إرهابية، منها يتولد الإرهاب وإليها يعود مستتراً بها، وتلاصق مباني الصفيح وضيق مساحة الوحدة السكنية كانت سبباً رئيسياً وأرضاً خصبة لانتشار جريمة الزنا المشروطة بأجر من فتيات يعرضن على شباب المنطقة الإتيان لهن ليلاً بغرفهن، أظهر الفيلم أيضاً أن تلك المناطق بيئة جيدة لعصابات الاتجار بالمخدرات وسطوة "الفتوة" الرجل صاحب السطوة وصاحب النفوذ، شاهداً أيضاً على عملية تزاوج السلطة التنفيذية الفاسدة المتمثلة في جهاز الشرطة بينها وبين المتاجرين بالمخدرات لتتخذ منهم مرشدين وقت الحاجة.
تاريخ يضمحل، تلك هي الإشكالية الأساسية التي ناقشها فيلم "عمارة يعقوبيان" عام 2006 وهو عن رواية علاء الأسواني، ناقش الفيلم العديد من القضايا التي تمر بها مصر، ومنها قضية العمران، وركز على منطقة "وسط البلد" والعمارات القديمة التي تحمل التاريخ الخديوي، ذلك التاريخ الذي شيده الخديو إسماعيل حصيلة سنوات طوال اطلع فيها على حضارات الغرب، ثم عاد إلى مصر ومعه أفضل المعماريين والمخططين؛ لينقلوا تلك الحضارات إلى مصر، وكيف تحوّلت بسبب الإهمال في تطويرها أو المحافظة عليها إلى مبانٍ ذات واجهات سيئة لا ترقى إلى القيمة الأثرية لتلك العمارات، وكيف تحولت أسطح تلك المباني إلى عشوائيات يسكنها الفقراء ممن لا دخل لهم، جسَّدها المخرج في مشهد لأحد أبطال الفيلم "عادل إمام"، وهو يقول: "يبصوا على البلد اللي باظت، يبصوا على العمارات اللي كانت أحسن من عمارات أوروبا، دلوقتي بقت مزابل من فوق ومن تحت مسخ".
ومن أبرز الأفلام التي ناقشت قضية العمران والسكن فيلم "كراكون في الشارع" عام 1986 التي تدور قصته عن المهندس شريف "عادل إمام "وزوجته سعاد المدرّسة، وابنتهما سارة وابنهما هاني ووالدته الذين يقيمون بمساكن الإيواء بعد هدم منزلهم، لم يجدوا غير حوش مقبرة عائلتهم ليسكنوا به؛ لتنتقل حركة الكاميرا من عمران المدينة إلى عمران الأموات، وتلقي بضوئها على قضية كبيرة ظهرت مع اضمحلال العمران بمصر، وقد تكون هي أقدم المشاكل العمرانية المصرية وهي قضية إسكان المقابر، وكيفية تقبّل الحكومة المصرية للأمر، حيث إن النيابة العامة أمرت بتقاسم الحوش بين أسرة شريف والتُّربي المقيم به قبل مجيء الأسرة إليه، ناقش الفيلم أيضاً حلاً لمشكلة الإسكان وهو الحل المطروح منذ قديم الأزل حتى الآن وهو الخروج من وادي الدلتا إلى الصحراء.
ناقشت كذلك العديد من الأفلام تلك القضية وأبرزت خلال مشاهدها حالات التدهور العمراني وقضايا العمران في مصر، ومن تلك الأفلام "إبراهيم الأبيض، الألماني، جمهورية إمبابة، ريجاتا".
لا نستطيع إنكار دور السينما في نقل قضايا العمران المختلفة في مصر، وإن كانت بعض الأفلام ناقشتها كموضوع جانبي، لكن ناقشت تلك الأفلام القضايا المترتبة على ظهور تلك المناطق من مشاكل اجتماعية وثقافية وبيئية، تعتبر أفلام "صرخة نملة، حين ميسرة، عمارة يعقوبيان" أفضل الأفلام التي ناقشت التدهور والتخلف العمراني الذي وصلت إليه أحياء القاهرة وضواحيها والمشاكل الناتجة عنها، فيما يعتبر فيلم "كراكون في الشارع" أفضل الأفلام التي ناقشت قضية إسكان المقابر وقضية الإسكان عامة، مع وجود مناطق صحراوية قابلة لبناء مساكن جديدة بتكاليف قليلة.
إن قضايا العمران ليست بالهينة، بل تبني الأمم حضارتها بعمرانها أولاً، وتدهوره إنما يكون سبباً في إجرام المجتمع، بداية من تولد شعور عدم الانتماء لدى أفراده، مروراً بانتشار الزنا المشروط بأجر، وإنتاج أطفال الشوارع، وعودة زمن "الفتوة"، وانتشار الجرائم، والإرهاب، وانتهاء بعدم قدرة الحكومة على إحكام قبضتها الأمنية على تلك المناطق المتدهورة، كل تلك القضايا إنما هي ملفات مفتوحة أمام السينما لنقلها إلى المشاهد وطرح الحلول لها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.