هربت من القتل إلى مصر ثم عادت لتموت وسط أولادها.. قصة “أم عمار” وأحزان سوريا التي لا تنتهي

عربي بوست
تم النشر: 2018/06/13 الساعة 10:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/06/13 الساعة 10:23 بتوقيت غرينتش
Middle eastern mature women posing looking through a fence very sad

يوماً ما عندما تنقشع الغمامة عن بلاد الشام ربما نستمع إلى أمثال شعبية، مثل: (أنا اليوم حزينة كسوريا – كنت اليوم مظلوماً كالشام – جريح كالغوطة – بلغ الحزن من قلبي مبلغه على حال سوريا الذي لا يتغير إلا للأصعب).

 رأيت هذا الفتى الذي وقف من حياتي مواقف شهامة مفقودة في بلادنا العربية، رأيته صدفة فلم أفكر كثيراً وذهبت نحوه وكانت المرة الأولى التي أخاطبه فيها.. شكرته شكراً حاراً على معاونته في الماضي، بدا أنه لم يتذكر أبداً، نظر لي نظرة محرجة، وقال: لم أفعل شيئاً. كررت شكري وغادرته.

 في الواقع ربما لا يذكر أبداً ولا يذكر الأثر الذي تركه في عمق عالمي؛ لأنه قد تعامل بطبيعته في مواقف تحتاج إلى آدمي يمتلك شيئاً من المروءة ينصر بها الحق فحسب، هو قد فعل هذا لله، ثم طوى الصفحة لكنها بقيت مفتوحة عندي؛ لأن آثار تلك الأيام كانت الأشد، وعمله كان يشبه معجزة ينتظرها غريق.

في سوريا هناك جراح غائرة لنساء تعرضن للاغتصاب في سجون الأسد وأنجبن أطفالاً في الأسر، وصغار تعرضوا للتعذيب حتى الموت، وعائلات كاملة دُفنت تحت الأنقاض، ومن خرج منهم على قيد الحياة خرج لتلاحقه أقدار أخرى في قصف آخر.

 لا أحد يعلم حتى الآن مَن هو هذا الفارس الذي سيجمع شتاتها؟ مَن هم هؤلاء الذين يمتلكون رجولة كافية ليتحدوا على تحريرها؟ مَن هذا الذي سيكون شهماً مع وطن بأسره؟!

 الآن كأن تلك البلاد أصبحت في مذلة وضعف وعجز أشد من الذي كنت فيها يوم هرع ذلك الفتى لنجدتي.

 في اليوم الذي فقدت الأمل في حدوث المعجزة حدثت في عالمي.. يوماً ما وعسى أن يكون قريباً حين نفقد الأمل جميعاً في تحرير بلاد الشام من شرذمة حطمتها وتقاسمت أشلاؤها.. سيأتي من لا يبالي إلا من أن يقول كلمة الحق..

 ألتقيها دائماً في المسجد.. (أم عمار) امرأة سورية عجوز خشي عليها أبناؤها من الحرب فجمعوا لهم من مالهم وأرسلوها مع زوجها العجوز إلى مصر.

 كان من المفترض أن يسافر معهم ولدها الأصغر إياد ليخدمها وأباه في الغربة كما اتفق معه إخوته، ولأنه الوحيد الذي لم يكن قد تزوج بعد، لكنه استشهد قبل السفر بأيام.

 جاءت أم عمار إلى مصر وعملت على كبر سنها في التجارة، وكانت في كل مجلس تتحدث عن ولدها الأصغر الذي دفنته شهيداً وسافرت بدونه.

 ضاقت السبل بها في مصر كما ضاق الوطن بأبنائه أنفسهم، فقررت المرأة العجوز العودة إلى وطنها رغم الحرب التي على أشدها هناك.

 قالت لي: "ادعي لي أموت وسط ولادي".

 إن الوطن بالنسبة لها هو تلك الأرض التي تريد أن تدفن فيها.

 الحزن صار رفيقاً قديماً لأم عمار، هي لا تخشى الآن ما كانت تخشاه منذ خمسة أعوام، عندما جاءت إلى مصر فزعاً من الحرب.

 طيف ولدها ظل ملازماً لها، تقول في فخر: "أنا أم شهيد خلاص بروح له والله بيرحمني بيه".

 الآن هي تحلم باللقاء ولو كان تحت التراب.

 في سوريا الحزن له صوت ولون ورائحة.. في سوريا حكايا الإنسان والإنسانية شيء آخر.

 إن كان وجه الحياة في عيون فتاة مثلي قد تغيّر من يوم واحد ومن موقف واحد شعرت فيه بأن هناك مَن يستطيع دفع البطش والظلم، شعرت بآدميتي وحقي في الحياة بكرامة هذا القنديل الذي اشتعل في روحي يومها من يأتي ليشعله لأجل ياسمينة الشام الذابلة.

 في سوريا هناك من يُغيّرون تاريخ الحياة لشعب بأسره ينادي بحقه في الحرية، بصمودهم لسنوات في وجه حفنة من الضباع تعاونت على نهش البقية الباقية من وطن ضيعه السادة حتى يبقوا فوق عروشهم ليوم آخر، وحتى يتقاسموا آخر ثمار المدينة ويعربدوا في ثمالتهم فوق حطامها.

إن إنقاذ الناس يأتي على أهون سبب يرسل الله الخضر بالبشارة كلما انقطعت السبل وتلاشت الحياة.. هذا ناموس الكون وعليه نحن ننتظر أن يأتي المدد القريب إلى بلاد قد داسها جيش المغول، ومر فوق جثمانها الهول الذي لا نحسن كتابة اسمه ونستعيذ بالله من أن يطأ بلادنا.

أرقيك يا سوريا وأعيذك من الحزن الذي يكسو قلبك وقلوب محبّيك.. أرقيك بحق المعجزات التي يرسلها الله للمضطر إذا دعاه، ويكشف بها السوء، وأتمنى أن أرى مَن يمسح دموع عينيك بطرف عباءته ليراك العالم تبتسمين مجدداً، ورغم أنف طوفان الألم الذي حطَّم كل شيء، لكنه لم يحطّمك.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
زينب سعد
أم وأخصائية تخاطب
تحميل المزيد