عندما انطلقت المدافع من القلعة لتقصف الزمالك وجاردن سيتي

عربي بوست
تم النشر: 2018/06/13 الساعة 12:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/06/17 الساعة 21:27 بتوقيت غرينتش

كان الشيخ في تلك اللحظة الرهيبة ذلك المغني الضرير الصعلوك، الذي بدأ حياته قارئاً للقرآن، ومؤذناً ومنشداً في حلقات الذكر. الأهم من ذلك أنه كان في في التاسعة والأربعين من عمره.

لكنه اتخذ القرار الرهيب دون تردد.

وضع تفاصيل حياته البسيطة في قبضة المجهول، وقرر الثورة على نظام عبدالناصر، ومن غرفته بالقاهرة الفاطمية أصدر بيانه الأول على هزيمة 1976: بقرة حاحا.

الهزيمة التي هبطت على النافوخ لنستيقظ

ذات مساء من صيف عام 1962، لم يكن الشيخ إمام ينتظر ضيوفاً. لكن الرجل الذي سيطرق الباب بعد قليل سيكون رفيق الشيخ في رحلة لا تنساها الأجيال المتعاقبة، المتعطشة للتغيير والثورة والتمرد.

الضيف كان أحمد فؤاد نجم، زجال "رد سجون"، أمضى هناك 3 سنوات عقاباً على التزوير واختلاس الأموال الأميرية.

وبعد سهرة غنَّى فيها الشيخ جواهرَ من ألحان زكريا أحمد للست، انفعل نجم. ومن النافذة رمى مفتاح غرفته بحي بولاق الدكرور، وقرَّر أن يعيش مع الشيخ. وفي سكون الفجر، سقط مفتاح على فناء بيت جمال الدين الذهبي، شاهبندر التجار بمصر في القرن 17.

بدأ الثنائي إمام- نجم يجوبان الأفراح وحفلات الختان، وجلسات المزاج. لم يكن نجم قد كتب كلمة واحدة في السياسة، ولم يكن الشيخ قد اهتم بما يجري هناك، في القصور التي تحكمنا وتتحكم بمصائرنا، حتى وقع الزلزال.

حلَّت الهزيمة التي ابتكر لها إعلام عبدالناصر اسم النكسة.

في عام 2006 حكى لي الشاعر الراحل أن الشرارة الأولى ضربت نافوخه يوم تنحي عبدالناصر. "مشيت يومها على قدمي من ميدان التحرير للعتبة إلى بيتنا في خوش قدم، دمي يغلي، مش طالع على لساني غير كلام بقرة حاحا".

كانت "بقرة حاحا" هي البيان رقم واحد في تمرد إمام ونجم، وافتتاحية عمل سيمفوني ثوري سوف يستمر نحو 15 عاماً بتنوع مذهل، حتى يصبح أيقونة لغناء الثورة والتغيير في العالم العربي.

نجم كان في الثامنة والثلاثين، لكن إمام كان على مشارف الخمسين. سن لا تصلح موعداً لتمرد كبير. شيخ ضرير يكسب قوته من صوته وعوده، يقرر في لحظة خارقة أن يقلب عالمه "فوقاني تحتاني".

الأغنية التي أغضبت عبدالناصر فانتقم

وصل عبدالناصر تقرير بأن نجم وإمام يروجان أفكاراً مناهضة للحكم، فاستدعى وزير داخليته شعراوي جمعة، كما يحكي صلاح عيسى. تحجج وزير الداخلية بأن اعتقالهما سيغضب المثقفين، ورد الزعيم الخالد بالشعار الخالد: بلا مثقفين بلا كلام فارغ، اعتقلوهم.

كانت كل بيانات إمام ونجم بالنسبة لعبدالناصر كوم، و"الحمد لله خبطنا" كوم آخر. الأغنية التي لم ترحم مواجع الشعب الجريح من الهزيمة، وتضمَّنت اتهامات صارخة لعبدالناصر ورفاقه بالتربح والفساد والكذب.

الحمد لله وأهي ظاطت
والبيه حاطط
في كل حته مدير ظابط
وإن شالله حمار

كانت الأغنية "أول اشتباك مع السلطة وأول هجوم صريح وجريء على عبد الناصر شخصيا"، بتعبير أحمد فؤاد نجم.

السجن الذي أصبح البيت والأنس وملتقى الصحبة

تم إيداع الثنائي السجن، ولم يصدر شيء عن المثقفين، في ظل قبضة ناصر الحديدية، "بلا مثقفين بلا كلام فارغ".

قبع الاثنان في سجن القلعة الرهيب، ولم يخرجا إلا بعد وفاة ناصر 1971. عندما خرج الشيخ إمام من التجربة الأولى كان في الرابعة والخمسين، لكنه أصبح أكثر عنفواناً وقوة. في الشهور التي سبقت عودته للسجن غنى لطلاب مصر الثائرين على تأجيل الحسم مع إسرائيل "رجعوا التلامذة"، وغنى اثنتين من أيقوناته الباقية "صباح الخير على الورد اللي فتح"، و"مصر يا امه يا بهية".

وعادا للسجن مرة أخرى في مظاهرات الطلبة في 1972 احتجاجاً على تأجيل حرب تحرير سيناء.

ثم مرة ثالثة عام 1973، حين شاركا في مظاهرات عمال حلوان للحديد والصلب.

ومرة رابعة في 1977 بتهمة التحريض أيضاً، بعد انتفاضة الخبز في يناير/كانون الثاني.

وفي كل مرة بالسجن كان الثنائي يواصلان كتابة الأغاني وتلحينها، هل هناك "استبياع" أكثر من هذا؟

المعركة التي تكبر كل ضد كل الأعداء

ولم تعد معركة الثنائي مع رأس النظام وقتها. تحول مشروع المعارضة إلى ماكينة تضرب في أركان المجتمع الراكد.

انطلقت المدفعية الثقيلة من البيت رقم 2 حارة خوش قدم قرب القلعة، لتدك سكان الزمالك وجاردن سيتي ووسط البلد من الرموز المقربة للنظام.

أم كلثوم: بتغني بالزمبلك، ولا انتي صوت إبليس؟

هيكل: لأن "الصراحة" في بلدنا قليلة، جعلها… شعار يرمي تحته السموم كيف يعوز.

يوسف السباعي: وكان أصله ظابط وحول حرامي/ ويكتب أدب بس ما يتقريش.

الأبنودي: مجاول وشاعر وبياع ملوحة وتاجر غناوي.

صلاح جاهين: بقى مليونير واللي يعوزو، يلقاه في إيده، عقبى لك، وخلي بالك من زوزو.

عبدالحليم الذي توسط عام 1954 لينشر أول قصائد نجم في الأخبار، وكان زميله بملجأ الأيتام بالزقازيق: لماليمو الشخلوعة الدلوعة الكتكوت، الليلة حيتنهد
ويغني ويموت.
قصفت أغنيات الثنائي مقهى ريش قرب التحرير، حيث يعيش المثقف "محفلط مزفلط كتير الكلام".

وتوالت الهجائيات ضد الرئيس الفرنسي ديستان، والأميركي نيكسون "بتاع الووترجيت"، وغيرهما.

أين كانت حدود إمام ونجم إذن؟

لم تهادن بيانات خوش قدم خصماً، ولم تربّت على ظهر مخطئ، فمن أين أتت هذه القسوة والجسارة، والسجن أقرب للاثنين من حبل الوريد، في كل مرة يغضب فيها الحاكم؟

إذا كانت "الحمد لله خبطنا" هي سر غضب ناصر، فإن شخصية شحاتة المعسل في قصيدة "بيان هام هي التي جعلت السادات يضعهما في السجن حتى موته، تماماً كما فعل سلفه.

في أقل من 15 عاماً قدم الشيخ  أكثر من 300 أغنية، قال في حوار صحفي إنها كانت "ضمن إطار الغضب والسخط"، بعد هزيمة 1967.

هكذا تخلق الهزائم أحياناً ظواهر خارقة، تبشر بالأمل، وتعيد بناء الإنسانية المهدمة.

لكنه هو المتمرد القديم، فلا تندهشوا

لم تكن انتفاضة الشيخ السياسية في 1967 غريبة على شخصيته، فهو متمرد قديم. لكن الغريب هو فداحة الثمن المحتمل أن يدفعه هذه المرة.

سبق أن تمرد حين كان يدرس العلوم الإسلامية بمعاهد الجمعية الشرعية، وطردوه. هناك أكثر من رواية للحادث، لكن الخلاصة أنه تمرد وطردوه.

وكان أحد السنيدة في تخت زكريا أحمد، يستمع إلى ألحان الشيخ لأم كلثوم قبل أن يسمعها الناس، والشرط هو عدم تسريبها قبل غنائها للمرة الأولى في حفل الست. لكنه سرّب لحن أغنية الأمل في مجالس الأنس، وانتهك قاعدة الكتمان، فغادر تخت زكريا إلى الأبد.

ثم إن وحدته المطلقة وليدة تمرد عائلي ضد الأب في مرحلة الصبا، وضد فكرة الزواج بعد تجربة استمرت شهراً واحداً. فأمضي حياته رهين محابس اختيارية، ثمناً لتمرداته العديدة.

لكنه كان ذكياً ويعرف حدود التمرد.

اتصل بأحد مذيعي البرنامج العام نهاية 1967، وطلب منه استضافته في سهرات عيد الفطر. سأله المذيع: وتفتكر يا شيخ إمام أغانيك انت ونجم ممكن تتذاع في الإذاعة المصرية؟
فردَّ بسرعة: ما أنا عامل حسابي، مش حاغني عندك الأغاني السياسية طبعاً. لكن بمناسبة العيد محضر للمستمعين كام حتة شعبية كده مالهاش دعوة بالسياسة خالص.

هناك نقطة داخل الشيخ إمام، الذي نحتفي بذكراه هذا الأسبوع، كانت تؤمن بما يقول، وتجعله مستعدا لدفع الثمن.

سألته روزاليوسف عن الفرق بينه وبين سيد مكاوي، فأجاب: سيد مكاوي اختار طريق الفخفخة وأنا اخترت طريق النضال.

قالها وهو يعيش ويموت في شقة خوش قدم ذات الغرفة الواحدة، رغم بلوغه ذروة من المجد. غرفة لا تضم سوى كنبتين ومقعد بثلاث قوائم ورف ومرآة مكسورة.

لكنه المغني الضرير الذي كان يرى شمساً غابت عن معظم المبصرين.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمد موسى
صحفي مصري
تحميل المزيد