كنت أجلس أمام حاسوبي، وأعمل على تكليف خاص بدراستي، فسمعت صوت أمي يتأوّه بشدة من المطبخ، فخرجت أنا وأختي من غرفتنا مسرعتين إليها؛ لنجدها قد جرحت نفسها جرحاً غائراً في يدها ينزف بغزارة.
أخذت يدها بهدوء لألقي على جرحها نظرة، وأخبرتها أنه يحتاج إلى إسعاف طبي، وأنني سأذهب لارتداء ملابسي ريثما تساعدها أختي في ارتداء ملابسها لنذهب إلى المستشفى الذي يقع على بُعد شارع من منزلنا، لكنها رفضت رفضاً قاطعاً لا جدال فيه، رغم محاولاتنا المستميتة لتستجيب لنا.
كنت أتلمس ملامح وجهها ونظرة عينيها اللتين تحاول إبعادهما عني وأنا أتحدث معها، حتى التقت مقلتها بمقلتي، لأجد نظرة طفولية في منتهى البراءة والفزع تغلفهما، كانت عيناها تستجدياننا ألا نذهب بها إلى الطبيب، وتحت ضغط رهيب منا لتُخبرنا السبب، اكتسى وجهها الرقيق بتعبير إنساني يمتلئ بالرهبة البريئة والاستعطاف الطفولي غير المُتكلف، وقالت: "أصل أنا بخاف مِ الدكاترة والخياطة، والنبي ما تودّونيش للدكتور"؛ لننفجر جميعاً ضاحكين رغم تراجيدية الموقف البحتة!
سألتها: "كم عمرك الآن يا أمي؟"، قالت: "55، ربما أكثر أو أقل بعام، كففت عن العدّ منذ مدة طويلة"، فسألتها ضاحكةً: "وهل يخاف مثل مَن في عمرك مِن الدكاترة؟"، أجابت بإيماءة من رأسها أن نعم ما زالت تخاف منهم حتى بعد مرور كل هذه السنين، وقالت: "في صغري حين كان يأخذني والداي للطبيب من أجل تطعيم أو حقنة كنت أجري منهما ليجري خلفي الجميع، الأهم من الجرح هو نفسية المريض، وأنا نفسيتي لا تسمح لي بالذهاب للطبيب"، حاولت إغراءها بتأكيدي على شراء البسكويت بالتمر الذي تعشقه لها بعد الانتهاء من زيارة الطبيب؛ لتظل على موقفها الرافض المُدعم بنظرة خوف ينصهر قلب كل مَن يراها عطفاً، ضمدت لها الجرح مبدئياً على أمل أن تُغير رأيها لاحقاً، وجعلتها تعدني أن نذهب إليه غداً إذا لم يبدأ في الالتئام، فنظرت إليّ نظرة شُكر وحب، لا لأني ضمدته لها، وإنما لأني لم آخذها للطبيب!
جعلني هذا الموقف أرى أمي بشكل مختلف تماماً، فلأول مرة يتلاشى بيننا حاجز العمر؛ لأشعر بها وقد صارت ابنتي وصرت أنا أمها، سرت في جسدي كل أحاسيس الأمومة المتناقضة، ما بين الخوف عليها والغضب الشديد منها؛ لأنها لا تريد أن تذهب للطبيب والإشفاق على خوفها منه، لأول مرة أرى أمي التي أضرب بها المثل في القوة والشجاعة والمروءة أمام الجميع فزِعة لهذه الدرجة فقط من ذِكر كلمة "تقطيب الجرح" أو "طبيب"، لأول مرة أرى هذه البُعبُع الذى أهابه بشدة إذا ما فعلت شيئاً خاطئاً، والذي لا أستطيع إخفاء الأسرار عنه؛ لأنه يمتلك استراتيجيات وتكتيكات سيكولوجية مُرعبة تجعلك تقر وتعترف بكل جُرم ارتكبته في حياتك من المهد إلى اللحد، فقط بنظرة، مُرتعِبة ببراءة لهذه الدرجة، لأول مرة أرى تلك السيدة سديدة الرأي ذات البصيرة والعقل الراجح التي تولت مسؤولية بيت وفتاتين وحدها منذ سبع سنوات بعد وفاة زوجها -أبي- الذى أحبته وأخلصت لذكراه فلم تستطع الزواج بعده، المرأة التي علمتني كيف أحب أن يكون لي كيان، وكيف أعمل على تحقيق ذاتي، تجلس أمامي وقد اعتلت وجهها نظرة طفلة حمقاء في السابعة ترجوني عدم الذهاب للطبيب، مؤكدة أن لا داعي لهذا!
أيقنت حينئذ أنه مهما مرّ على الإنسان من عمر ومهما عايش من تجارب سيظل بداخله شيء يوقظ أعمق أحاسيس الطفولة، مهما اشتعل رأسه شيباً سيظل يجذبه شيء يُدغدغ البراءة الكامنة في نفسه التي ظن أنها فُقِدت مع السنين، وتأكدت أنه من الحمق أن نظن أننا كبرنا على الحياة؛ لأنه إذا صدقنا هذا ستتركنا نؤمن به إلى أن تمسكنا ذات مرة لتضعنا في موقف أبله من فرط بساطته، ولتواجهنا بحقيقة أننا حتى هذه اللحظة لم نكبر بعد!
نعم، ما زلت أخاف الظلمة قبل النوم وألحّ على أمي أن تترك ضوء المصباح الصغير القريب من باب شقتنا مُضاء ليلاً، ما زلت آكل الشيكولاتة بنهم، وأفرح إذا ما أهداني أحدهم قطعة حلوى، ما زالت تلمع عياني كلما أمسكت ببالونة هيليوم حمراء اللون، ما زلتُ أفرح حين ألعب في بِركة المياه التي يصنعها المطر ببوطي الأسود اللامع، ما زلتُ أقتطع من وقتي بين الحين والآخر لأستمع لأغاني المسلسلات الكارتونية التي أحببتها في صغري، أنسى مواعيد هامة ومعلومات صعبة حفظتها عن ظهر قلب، لكني لا أنسى أبداً أغنية المُحقق كونان وسابق ولاحق وريمي وبوكيمون وأبطال الديجيتال وماوكلي، ما زلتُ أُمسك بنفسي وقد ابتعت تذاكر سينما لفيلم جديد من ديزني، ما زلتُ بطلتي الخارقة بعد أمي هي بوكاهانتس، ما زلتُ أؤمن بالنهايات السعيدة وأبكي فيها، وما زلتُ أنتظر رسالة من هوجورتس؛ حيث درس هاري بوتر تُخبرني بتشرفهم بانضمامي لمدرسة السحر!
عودوا صغاراً كلما استطعتم إلى ذلك سبيلاً ولا تخجلوا، صرّحوا بكل براءة بأنكم تحبون الركض أو ركوب العجل و"المراجيح"، اطمئنوا لأنكم ما زلتم تحلمون وتؤمنون بالحب، حتى وإن كنتم تقرونه في أعماقكم ولا تُعلنونه أمام أحد، صدّقوا السحر والجنيات والأمنيات الخيالية والأحلام بعيدة المنال، حتى وإن انتزع منكم الدهر إيمانكم وأجبركم عن التخلّي عنها، وواجهكم بحقيقة عدم وجود بابا نويل والأقزام، أعطوا ما لطفولتكم عليكم من حق بما سببته لكم من سعادة بريئة، حتى وإن كان هذا بالخوف من الذهاب إلى الطبيب؛ لأن بها فقط تدوم إنسانيتنا.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.