كلما تجاوزتُ مرحلة عمرية تمنيتُ لو أنه بإمكاني أن أعود لأعيشها مرة أخرى بتلك الخبرة، بعد أن أخذت مفاتيح المرحلة وعرفت أروقة ودهاليز النجاح من دون ألم، وكلما تمنيتُ أن أعود لأحقق مزيداً من النجاح أو أتجنَّب كثيراً من الألم، أقرر أن أحكي، أن أتكلم، أن أكون سفير سلام يأتي إليك من المستقبل ليهدي لك تجربته.
من أهم الخبرات التي تمر بحياتك الإحباط الشديد، والتقييم المستمر لكل تفاصيل الحياة التي يعيشها الإنسان عندما يصل إلى السابعة والعشرين، فكأنك تكتشف فجأة، أنك لم تعُد "الولد"، ولكنك ما زلت في العمل نفسه الذي التحقت به عندما كنت حديث التخرج، أو ما زلت تتنقل من عمل إلى آخر تتخللها فترات من البطالة، ما زلت من دون مشروعك الخاص، ما زلت من دون ترقٍّ، ما زلت بلا منزل ولا سيارة.. مرحباً بك في الثلاثين.
في بداية العشرينيات يختلف الأمر كثيراً، ولكن دعونا نعُد إلى بداية الأمر، فمن منا لم يكن ينوي في طفولته تحرير الأقصى ونشر السلام، ولم لا وطالما قرأنا عن محاولات أديسون الفاشلة وكاتبة هاري بوتر، والقائمة تطول عن قصص الفشل الذي تحوَّل إلى نجاح، والبدايات المتعثرة التي تتحول وتتبدَّد فجأةً، هل كان كل ذلك كذباً وزيفاً حطَّمه الواقع.
على أية حال، نصل للعشرينيات ونرتطم بالواقع، ولكننا نتمسك بالأمل وبأن كل شيء سيتغير، لو كنت غير موفَّق في الدراسة فستظل تقول: لا يهمُّ، فهناك أطباء تجاوزوا الثلاثين، وما زالوا يعملون براتب بسيط.. وهناك من بدأ بمشروع بسيط وعندما تجاوز الثلاثين أصبح رجل أعمال يمتلك الملايين.
ولا أعرف لماذا تُفاجأ عندما تقترب من الثلاثين ولم تصبح مليونيراً، ولو كنت موفَّقاً في الدراسة فستنتظر أن تُفتح لك أبواب السماوات والأرض، ولو كنت لا تعرف طريقك جيداً فقد يكون دخولك كلية القمة آخر إنجاز حققته بحياتك.
أما على الصعيد العاطفي، فعادةً ما تُحبُّ ولا تتزوج في البدايات، ويتطور الأمر وتتزوج، قد تكون غير راضٍ عن هذا الزواج الذي أقدمت عليه في ظروف سيئة، وقد تكون فقط غير راضٍ عن تلك الظروف أنك تخطيت الثلاثين، وأصبحت متزوجاً ومسؤولاً عن بيت وأولاد، وما زلت بسكن مؤقت وعمل مؤقت، ولكن قد تأخذ المنحى الآخر؛ وهو ألّا تتزوج وتتجاوز الثلاثين وأنت ما زلت مقيماً بمنزل أهلك، تشعر بأنك مجرد نزيل بمساكن العائلات، قد تجد صعوبة في قبول أنك ما زلت بولاية أبيك، وقد تكون مررت بتجربة فقْد أحد الأبوين أو كليهما، وخبرت هذا الفقد قبل أن تجد البديل فى الولد والسكن، ولكن على أية حال يبقى أمر تخطِّي الثلاثين دون زواج أمراً شديد الخصوصية بالإناث، فالأمر أشدُّ وطأةً عليهن.
كل ما سبق هو الواقع مختلِطاً بكمٍّ رهيبٍ من الأفكار المغلوطة، وعدم وضوح الرؤية الذي يجعلنا نفقد ما بيدنا، ونحن نطارد ما ليس بأيدينا، إن كنت تقترب من الثلاثين أو تخطَّيتها وأنت تشعر فقط بالفشل النسبي، وأن ما وصلت إليه ليس على المستوى، فدعني أوضح لك الصورة، كلنا نحب أن نحقق النجاح الكبير قبل أن نتجاوز الخامسة والعشرين؛ حتى يكون لدينا متسع من الوقت للاستمتاع بالنجاح مع الشباب.
ولكن، لماذا نظن أن المنحنى صاعد دائماً، منحنيات الحياة صاعدةٌ هابطةٌ، الحياة ليست اليوم والغد فحسب، فمثلاً لو تأملت النجمين منى زكي وأحمد حلمي؛ الأولى كانت أهم الفنانين، والثاني كان يلعب الأدوار الثانية، اليوم هل بقي الحال على ما هو عليه؟ اليوم هل تفضِّل موقعها أم موقعه، أي منحنى تفضِّل، وهنا أنتقل إلى نقطة هامة: لا تقارن نفسك دائماً بالمشاهير؛ لأن هذا ظلم كبير لك، فقد سمعت زميلاً لنا يقول: أنا أكبر من محمد رمضان، كان يقولها بمرارة رهيبة عندما نشر رمضان صور سياراته الجديدة، يبقى المشاهير حالات استثنائية، ليس لعلو شأنهم أو لأنهم أفضل منك، ولكن لأن هذا قَدَرهم، الذي بالتأكيد له حُلوه ومُرُّه كما قَدَرك، أعلم أنك لا تقارن نفسك بأينشتاين؛ لأنك تعلم أنه فعلاً عبقري، ولكن لا تقارن نفسك بهم؛ لأنك تحب الحياة وترغب في أن تمضي بطريقك، لا تقف دائماً تتحسر، فالحياة ليست خمس سنوات ذهبية تدخلها حديث التخرج لا تملك شيئاً لتخرج منها أثرى أثرياء العالم، الحياة عمر طويل بارك الله لك في كل تفاصيله وأيامه.
أما إن كنت -يا صديقي- تشعر بأنك وصلت للثلاثين وأنت تعاني الفشل التام، فدعني أقُل لك ما الذي كان يخيفك.. أن تصل للثلاثين دونما أن.. ها قد وصلت لما كنت تخاف، لم يعُد هناك شيء ليخيفك، لم يعُد لديك شيء لتخسره، أصبحت لديك رفاهية أن تترك عملك الممل وتجري خلف شغفك وحلمك، إن كنت بلا أسرة وأولاد فأنت خارج مطحنة أكل العيش التي تقتل كل إبداع، انطلِق وقد يصل بك الإبداع إلى ما لا يصل به الطريق التقليدي.
وأخيراً.. صديقي، تذكّر أنك تخطَّيت الثلاثين، ولكنك لم تتخطّ الحياة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.