كنتُ أضحك على تعليقات رامز جلال على ضيوفه (أو مُهزّئيه) في برامجه التي تمتد لخمس سنين أو أكثر، لكن بعد نضوج تعريف وأخلاقيات كلمة "سخرية" عندي، "أن تسخر من الأفكار -فقط- بطريقة لا تجرح من أمامك بها، ولا تسخر أبداً -بأية حال من الأحوال- من سمات الشخص الجسمية، أو أي شيء لا يستطيع تغييره وتحسينه؛ لذلك أحسست بسخف ما يتفوه به عن ضيوفه؛ فأصبحوا مُهزئيه، الذي يملأ نصف حلقاتهم بالسخرية منهم، ومن أجسامهم، وحياتهم الخاصة، بل تعليقات تصل لحد التحرش اللفظي في القانون.
انسحبت من مشاهدة حلقاته من تلقاء نفسي، وآثرت الصمت، دون التعليق على أي مما يحدث، لكن تذكرتُ للحظة تلك السخرية التي كُنت أنالها من أشباه رامز في الطفولة، فعرفت أن رامز جلال ليس نتاجاً عشوائياً، يحب من صغره "المقالب" والسخرية، بل نتاج سخرية لاذعة متشعبة في المجتمع كله، يقبلها ويبارك لها؛ ما دام ليس مقصوداً بها؛ لذلك رأيت كل من سخر مني قديماً – وربما الآن – رامز جلال، وأنه شخص يأتي متنكراً في جسد شخص ممن أعرفهم، سأقص عليكم مواقف مع رامز جلال في الطفولة.
"سسسسسسس"
أن تكون شخصاً بديناً هذا محط سخرية، أن تكون شخصاً بديناً قصيراً، ألدغ في حرف السين، فأنت كنز لا يعوض لهؤلاء، لا أذكر كثيراً عن السخرية في المرحلة الابتدائية، لكني أشعر بها، أعتقد أني نسيتُ هذه المواقف بسبب عوامل الزمن، وعامل الكبت، يتناسى العقل مواقف أليمة.
كثيرة هي تلك المواقف المؤلمة؛ لذلك يمن الله علينا بممحاة، اسمها النسيان، تخرج الزائد عن الحد.
المهم.. في الصف الأول الإعدادي ذهبت لمدرسة مختلفة، ومنذ اليوم الأول بدأ الحفل: بدأ الحفل على الوافد الجديد، ذي اللدغة المميزة في حرف السين، واسمه لسوء حظه التعس "حسن"، ليس هذا فقط، بل اسم جده أيضاً، هذا يحدث حين يصب عليك "السجل المدني" أطناناً من الحظ السيئ.
كان هناك من يدعى "مصطفى" عرفتُ الآن أنه "رامز جلال" متنكر، كان البعض يسخر منه من حين لآخر، والبعض يتعاطف، لكنه كان دائم السخرية، شديد المضايقة، بكيت مرة؛ عندما صدح -بلسانه- بحرف السين "سسسسسس" كرنين لا يتوقف، وهو يجلس خلفي، هناك لعنة عقدها القدر في لساني، فهو ضرير لا يحسن رؤية حرف السين بالتحديد، أبكي نادراً، وهنا بكيت، فكان موقفاً مزلزلاً بحق.
"كل ده وِرك!"
لم أكُن بديناً للدرجة المُنفرة، ولا حتى الآن، مع زيادة وزني، كنتُ كالبقية عندما يعلمون أن الأكل من المطاعم في الخارج هو أفضل شيء تختم به ليلك.
كنتُ بالصف الأول الثانوي، ولم أكُن مستجداً، ولم يكُن الساخر بجديد عليّ، بل صديقي منذ كنا نحبو – بالمعنى الحرفي – ولن أحتاج أن أقول لكم إنه رامز جلال متنكراً، لكن عاملته في ذلك الوقت كصاحبي، لم أشعر بفرق الحقيقة، كنا في أول حصة من درس الإنكليزي التي عرفتنا عليه صديقتنا "نورا" التي نعرفها منذ سنة أو يزيد من درس الرياضيات.
المهم دخلنا وقعدنا على "دسك" طويل، غير مدعم بأي شيء من الأسفل؛ فأي شخص يأتي على مقدمته، كان يتأرجح بنا.
كنا نجلس عليه معاً، بدأت أنصت للمدرس الذي طفق يشرح، بينما لاحظت أن الدِّسك يتأرجح بنا، نظرت لصديقي الذي يؤرجحه للأمام، وعدلت من وضع جسمي؛ كي لا أسقط، قُلت – ربما – لم يقصد، دقائق وأعاد الكرة، نظرت له في عدم اهتمام، اقترب منّي كثيراً حتى التصقت فخذه بفخذي من الجنب، وقال صائحاً: "ما تبعد رجلك عني".
نظرت له متعجباً، "أنت مَن اقترب، وبجانبك مساحة تكفي اثنين مثلك، لماذا تقول هذا؟"، عاد المدرس يشرح، رأيته مجدداً يقترب، ويلصق فخذه، بل ونزل بزاوية صغيرة؛ لتكون ركبته أسفل فخذي، وصاح ثانية "شيل رجلك ده انت فطستني".
الأمر خرج من إطار التعجب إلى الاستنكار والدهشة؛ لِمَ تفعل ذلك؟
تريد إضحاك هؤلاء الفتيات ذوات الجمال المتوسط، أم تريد أن تبين لهن أن صوتك عالٍ، وبه خشونة، وأنك عبرت إلى منطقة الرجولة، كما تظن؟
رأى أن هذا لم يُلفت الانتباه، ولم يتوقف المدرس عنده كثيراً، ولا الفتيات كذلك، فصاح بصوت أكبر: "كل ده وِرك".
هنا كانت القاصمة، التي سكت معها الجميع لثوانٍ، نظرت له غير مصدق، أنت صديقي منذ كانت تلك "أوراكنا"، تتكون معاً إلى الآن، ولم تلاحظ هذا، إلا الآن، وبهذا الصوت الجهوري تحت هذا السقف المهترئ، وأمام هؤلاء الناس، وعلى هذا الدِّسك الذي تؤرجحه؛ لأنكب على وجهي أمامهم!
بالرغم من أن هذا الموقف لم يكُن الأول، ولا الأخير، ولا الأقوى، لكنه حمل أسئلة جمة:
لماذا فعل ذلك؟ وهل السخرية مُجزية إلى هذا الحد لصحابها؟ هل تكسب المال من وراء معرفة مقدار الدهون في وركي؟
مواقف كثيرة مؤلمة مرت عليّ منذ الصغر، عندما أتذكر جُلها أضحك، لكن صدق من قال إن الجرح اللفظي أقوى بكثير من الجروح المادية.
نصيحة بعد التأمل في الماضي
إن كان يواجهك مثل هذا "الرامز" في حياتك، فاقطع علاقتك به؛ إن لم يكف، من يخبرك أنه يحبك، وأن ما يفعله من "العشم"، فقل له إن العشم كان عاهراً؛ لأنه سمح بذلك، صديق تخاف من تواجدك معه في أي مكان، ليس بصديق، الصديق هو من تتكئ عليه، حينما تثقل عليك الحياة، ويجمع شتاتك بعد تشتتك، لا تعرف رامز جلال جديداً، وأوقفه عند حده، إن رأيته.
أخيراً
شكراً؛ لأنكم ساهمتم في صنع شخصية ضعيفة غير واثقة من نفسها، عاطفية زيادة عن الحد؛ لأنه اعتاد أن كل سخرية تعود عليه، أفزعتموه من المدرسة، وهو شغوف بما يُدرس بها، حتى صار "شحطاً" عرف أنه أضاع الكثير من العمر خوفاً منكم، ومن ألسنتكم؛ لذلك كشفت رأسي ودعيت عليكم بالقلب الممتلئ غيظاً "أشوف فيكو يوم".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.