أتذكر تلك اللحظة حينما رأيت نتيجة التنسيق وعرفت أنني سألتحق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية منذ خمسة أعوام، ساعتها تغيّرت الدنيا وتبدّلت الأحوال، وعرفت أن قطار مسيرة الحياة الطويلة قد بدأ من أولى محطاته، وقد كان القطار أيضاً أولى وسائل المواصلات التي سافرت بها إلى الجامعة البعيدة التي اختارني القدر للدراسة بها ونسج حكاية طويلة قد بلغت من الكِبر عامها الخامس والذي أعدله بخمسين عاماً.
فتى في مقتبل حياته الجامعية يبحث بطاقة تهد الجبال الرواسي عن فرصة لإثبات نفسه رغم تقلّب الأحوال في البلاد وتبدّل الأمور وبداية خمسة أعوام من الصراعات التي واجهت البلاد.
أتّذكّر يومي الأول في السكن الجامعي وكيف استقبلته بالبسمة واستقبلني بالغبار والأثاث المكسور، كيف صارت الألفة والمحبة والتعارف والتآلف والمناقشة وأحياناً الخصام بين طلاب الفرقة الأولى والوحيدة في الكلية الجديدة! كيف تناغمت الثقافات المختلفة واللهجات المتباينة؟! كيف تؤلف بين قلوب الطلاب الجدد ويصير هذا الخليط العجيب في بداية السُكنى الجامعية؟! كيف اعتدتُ على هذا الطعام الذري ولم أرَ مثله في حياتي السابقة لذلك الميعاد، ورغم هذا صار روتيناً يومياً تألفه البطون، وكان هذا الطعام في مرمى نيران التندر ليل نهار بسبب ما كان يحويه ويبعث على النوم فور الانتهاء منه، أتذكر الضيق في الحياة داخل السكن الجامعي والذي كان أمراً يسيراً في بداية الطريق، شح المياه، ضيق الحجرات، إزعاج البعض في أوقات الامتحانات، رغبة أحدهم في النوم ورغبة الآخر في المذاكرة كان خلافاً مضحكاً على إشعال الضوء أو إغلاقه في غرفة واحدة يعيش بها أربعة من الطلاب، ربما كل واحد منهم أتى من مدينة تختلف عن صديقه في السرير المجاور له.
أتذكر يوم الأول في الجامعة في شهر سبتمبر/أيلول من عام 2013 وكيف استقبلتنا الكلية استقبالاً متواضعاً في انطلاقتها الأولى، وكيف رنّت في أذني عبارة المناضل غاندي التي رددتها إحدى أعضاء هيئة التدريس بقسم العلوم السياسية بالكلية: "في البداية سيتجاهلونك، ثم يسخرون منك، ثم يحاربونك، وفي النهاية… تنتصر" فأحسست فعلاً أنها بداية لحياة جديدة، لا أقول جميلة، لكنها جديدة لم أعتدها في سنين عمري القليلة التي مضت آنذاك.
أتذكر تلهفي على حضور المحاضرات الأولى، خاصة محاضرات العلوم السياسية بل وأول كلمة قيلت في هذا العلم "الدولة" وعناصرها وكل ما يمتّ للعلوم السياسية، حينها شعرت بالنجابة تجاه هذا الفرع من العلوم الاجتماعية، واخترت التخصص فيه طوعاً لا كرهاً، ومضيت فيه من حيث أدري بداية الطريق غير عالم بنهايته متلذذاً بالسباحة في بحره الواسع، أستشعر عمقه ولا أعرف وأخاطر بين أمواجه العالية لا آبه إلا بالتزود من خيراته، كيف بدأت بإرادة تخرّ لها الجبال ساعياً في إنشاء أول كيان طلابي في كليتي الجديدة منطلقاً من مجاراة أجواء مصر الملتهبة آنذلك من خمس سنين، رجوت أن يكون مختلفاً بصحبة هذا الجمع المختلف المتآلف صاحب الهمة والبصيرة، قبل أن تفرقنا أعوامنا الخمسة، إلا أننا قد نجحنا ولو يوماً في أن نجتمع على كلمة سواء، قد تعتبر الحركة الطلابية اليوم في أمَسّ الحاجة لها.
أتذكر الحراك الطلابي في بدايته، كيف كانت الجامعات المصرية شعلة من نيران الغضب الثائرة على النظام السلطوي الذي دأب على ممارسة كل أشكال العداء للطلاب في كل الجامعات المصرية، مُرتكباً كل فظائع القتل والاعتقال والإصابات والفصل التعسفي والإخفاء القسري، وبكل أسى ما زال هذا الوضع قائماً في الجامعة، عجزنا كل العجز عن كفّه وأودع جامعتي وفيها هذا.
أتذكر كم كانت تتوق نفسي إلى العيش في كنف الحرية الطلابية التي تكفل للكل واجب التعبير الحر عن الرأي بكل حرية وعدل، أتذكر كم حزنت على ضياع كل فرص التعايش بين الفرقاء السياسيين داخل الجامعة، وتحوّل الأمر إلى مناصبة للعداء من كل جانب، فهنا إسلامي يعادي ليبرالياً، واشتراكي يعاديهما معاً، وآخر يمارس كل أشكال البراغماتية ليذوق كل أشكال النفع المادي، كم تحوّلت الجامعة إلى ساحة صراع لا منافسة، وتفرقة لا تجميع، وبهذا تكسّرت كل أعمدة حلم البيت الطلابي الواحد وصرنا ما إلى ما صرنا.
كانت وما زالت الجامعة انعكاساً لكل ما يدور في أرجاء الوطن، بل يذكر منطق التاريخ أن الجامعة المصرية قد قادت أمواجاً من التحرر ومقاومة السلطوية وقد سجّلت موقفاً في كل حوادث التاريخ المصري، وإنني لا يكفيني فخراً وأنا أودع الجامعة كطالب أنني قد كنت من هؤلاء الذين بُحّ صوتهم لطلب الحرية يوماً.
دخلت إلى الجامعة مشبعاً بالتاريخ النضالي للجامعات المصرية، لا سيما الحركات الإسلامية التي أحمل فكرتها وأنطلق من مبادئها، لم يدم الأمر طويلاً في الجامعة ولا السكن حتى انقلبت كاف السكن إلى ج، وتبدلت الأحوال.. الأرض غير الأرض والسماوات تختفي وحلم الطالب ينقلب كابوساً، وقلمه ينقلب قيداً، وروحه تنطفئ، وجسده يهزل وتتبدل قاعة المحاضرة بزنزانة ضيقة.
كانت تلك محطتي الفارقة في قطار الخمس سنوات الجامعية، طالب جامعي يحاكم بتهم سياسية، ولم يحظَ من كليته سوى باسمها حتى رافقته طوال الثلاثمائة وواحد وثمانين يوماً التي قضاها بين أربعة معتقلات، وقد ذاق كل أشكال الظلم التي قد كانت كفيلة أن تقلب حياته رأساً على عقب، وتغير من كل أفكاره وتثبت بعضاً من معتقداته وتغيّر أخرى.
أتذكر ذلك العام الذي زادني عن عدد سنين الكلية الأربع سنة فعددت سنيني في الجامعة خمساً، بل قد فاقت تلك السنة عمري كله، وعددت السجن جامعة كما عدّها قبلي مناضل الحرية نيلسون مانديلا.
قرأت ما لن أقرأه في أعوام وعايشت ما لم يعايشه ذوو الشهادات الجامعية الكبرى، وفهمت كثيراً مما يصعب على من في سني فهمه، زادتني تلك السنة على عمري سنين، بل إنها قد غيّرت ملامحي فزادتها بضع سنين أيضاً، أتذكر أنني دخلت السجن صبياً يافعاً فخرجت منه رجلاً قوياً!
أتذكر كل محاضرة في العلوم السياسية، ذاك التخصص الذي وجدت فيه بغيتي، وسعيت لقراءة كل ما تقع عليه عيني بكل لغة أجيدها، تميّزت في وسط هذا الركام من الأفكار الزائفة، عرفت من العلوم السياسية معنى الحضارة وأهمية الدولة وقيمة الحرية وفن العلاقات الدولية وتاريخ الأمم، وأنه لا تحيا أمة أبداً دون تاريخها ومعتقداتها الراسخة، فكم من مناظرة ومناقشة وجدالٍ في محاضرة قد خضت، حتى صار حضوري في أي محاضرة مرتبطاً بنقاش ربما حاد!، لكن ذاك الفرع من العلوم الاجتماعية كان كفيلاً أن يخرج مهووساً بمتابعة كل ما يحدث حول العالم من أحداث وينعكس بعضها على مزاجه بل وحياته كلها.
أودّع العمل الجامعي الذي انحسر حتى تهاوى في ركن سحيق وتبدّل عن عمد بآخر سخيف تحت مسمى الأنشطة الطلابية، فاقدة للمعنى، شكلية أكثر من أي شيء، بعضها قد أنشئ حتى يعطي بريقاً لكيان قد ذهبت عنه كل أشكال الحياة الطلابية، أتذكر بأسى شديد كيف تحوّلت الكيانات الطلابية الكُبرى كاتحاد الطلاب إلى كيان أعور يخدم السلطة ويغض الطرف عن الطلاب وخدمتهم، رغم كل ذلك بقي في قلب الحركة النابض رمق في جسد هزيل قد أتعبته طعنات الانتهاكات المتكررة ومزقته الفُرقة الأيديولوجية.
وأنا الآن بعد خمس سنوات في الجامعة أودع هذا المكان بذكرياته حلوة ومُرة حاملاً على كتفي مهمة البحث العلمي، وهذا الطريق الوعر الذي اخترته السير فيه دون تردد وبكل قناعة ودأب، أودّع هذا اللقب الذي حملته طيلة 18 عاماً "طالب" وظل يلاحقني أينما ذهبت أفخر به أينما حللت حتى في وجه الظالمين أثناء محاكمتي.
خمسة أعوام كانت كفيلة أن تغيّر وجه مصر والعالم وليس أنا فقط.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.