أمي وأبي.. أبي وأمي هما الحضن الدافئ، هما مصدر الراحة والطمأنينة بالنسبة لي، هما السكينة والحب الحقيقي الصادق، إحساسي وشعوري تجاههما لا يمكن تلخيصه في مقال أو أكثر، حين يعجز اللسان عن الكلام والتعبير عما في القلب بمعنى أصح.
لذلك قررت في هذا المقال الحديث عن طيبة أبي التي لا مثيل لها وأكل أمي الذي لا يُعلى عليه، فأنا الآن أشتم رائحة الفحم المتغلل بالفراخ المدفونة داخل الكبسة السعودي، مع حساء الخضراوات بطعمه المميز وطبق السلطة الشهي، ويحضرني طاجن اللحم بالصويا صوص، وأتذكر صينية البيتزا بالفاهيتا، والنجرسكو الطبقات التي أشعر بتأنيب ضمير بالغ بعد تناولها؛ لذلك سأبدأ بالحديث عنه.
فأكل أمي أقول عنه حكايات، حيث "نَفَس" أمي المميز الذي يظهر حتى بطبق السلطة، أمي لا تطهو الطعام على النار، فدفء مشاعرها هو المسؤول عن ذلك، أمي تستبدل الملح برشة حب بسيطة تجعل أي أكلة تطهوها لا تقاوم، أما بالنسبة لبهارات الطبخة فتكمن في وضع مقدار بسيط من مَعزّتها لكل واحد بالبيت؛ لتجعلنا جميعاً نلتهم ما تصنع دون معرفة اسم هذه الوصفة الجديدة.
في اعتقادي أن أمي لا تتعب ولا تمل ولا تكل من الابتكارات الجديدة في الطبخ، فربما أسهم الإنترنت وتمكنها من استخدام الهاتف الذكي في ازدياد فرصتها على التجديد والتنويع مهما صعبت الوصفة، حتى أصبحت شيفاً محترفاً بمعنى الكلمة.
أمي غير كل الأمهات، أعلم أن هناك الكثير من الأمهات لديهن "نَفَس"، كما نقول يميز أكلهن عن باقي أكلات الأمهات الأخريات، لكن معظمهن بحكم معرفتي لهن دائماً ما يستعرضن مهاراتهن في العزومات وأمام الأقارب فقط؛ حيث ينتابهن الكسل ويستسهلن الطبيخ المعتاد مع الأرز الأبيض وصواني الجلاش والبشاميل والمقليات والمشويات، ويبتعدن عن كل عما هو جديد أو بمعنى أصح أكلات المطاعم؛ حيث المطبخ الآسيوي بأكلاته الحارة المبهرة، والإيطالي بمخبوزاته الرائعة هذا غير الأكل السوري واللبناني بمذاقه اللذيذ، ظناً منهن أن للشيفات حرفية لا تستطيع منافسته، أو ربما تقول ذلك لنفسها، ويكون ذلك نفسه ردها عندما يسألها ابنها أو زوجها عن سبب متابعة برامج الطبيخ، في حين أنهم لا يلاحظون أي تجديد على مائدة الطعام.
أما أمي فتختلف عنهن في هذه الجزئية، فهي متابع جيد ومنفّذ أكثر حرفية من شيفات برامج الطبيخ أنفسهم، تأكل منها الريد فيلفت ولا أجدعها شيف في مطعم 5 نجوم، أما السينابون فبإمكانها أن تغلق جميع محال السينابون وتبيع هي وحدها، ناهيك عن الأكلات الآسيوية التي برعت في تنفيذها، أما عن "لمساتها" الخاصة التي تضعها فحدّث ولا حرج.
ولا شك أن للمطبخ المصري مكانة خاصة في قلبها فهو المتربع على عرش أكلاتها المفضلة، فهي برعت وبذلت وتبذل مجهوداً غير عادي كي ترضي جميع أذواق أفراد عائلتها، فترى السفرة ممتلئة بأكلات من الشرق ومن الغرب، "بسم الله ما شاء الله عليكِ يا أمي"، اللهم لا حسد، حيث تكمن سعادتها وتنسى تعبها بمجرد رؤية الأطباق فارغة، مستكفية بكلمة "تسلم إيدك"، وهذه الجملة أيضاً لا تعنيها، كل ما يهمها هو رؤية الأطباق فارغة من جميع الأصناف التي نفذتها.
نعم أمي تختلف عن الأمهات، فهي ذات "نَفَس" مختلف، ذات روح مختلفة، مغامرة بعض الشيء، وتحب الاستكشاف وتنفيذ كل ما هو جديد، هي أيضاً ذات صحة مفتعلة، نعم تتظاهر أمامنا بأن كل شيء على ما يرام، ونتفاجأ بأعراض التعب تظهر عليها بعد الانتهاء من إعداد الوجبة التي في كثير من الأحيان تستوجب أكثر من يوم (لزوم التحضير)؛ لذلك أرجو لمن يقرأ هذا المقال أن يدعو لأمي، ويدعو لجميع الأمهات، فهن سبب فرحتنا وسعادتنا في الدنيا، ليس بسبب الطبخ وحده، فهناك الكثير والكثير، فأنا لا أتحدث هنا عن فضل أمي عليّ؛ لأنه كما ذكرت إحساسي تجاهها لا تكفيه الحروف الأبجدية في التعبير عنه.
أما الأب ودوره في حياة أبنائه فهو قصة مختلفة تماماً عن الأم، هو قصة كفاح تعب ومشقة لكن من نوع آخر، هو أول قصة حب في حياتي، هو مصدر أمني، والأمان بالنسبة لي والطيبة التي أحاول أن أكون مثله فيها وأبذل قصارى جهدي كي أشبهه في طيبته وتسامحه، فمواقفه المتسامحة مع البشر أجبرت الجميع على احترامه ومحبته من قلوبهم محبة صادقة، وقصّرت المسافات بينه وبين الأفراد، وجعلته قدوة ومثلاً أعلى للجميع وأنا على رأسهم، هو الشدة خوفاً علينا، والحنية التي غالباً ما يخفيها؛ حيث يترجمها بأفعال مادية أكثر منها معنوية، هو الوَنَس، هو مُلبّي احتياجات الأسرة مهما كثرت ومهما كانت تافهة بالنسبة له، مستعد للتضحية بصحته وبأمواله وبأي شيء يمتلكه من أجل إسعاد هذه الأسرة التي دائماً ما يتمنى أن تكون الأفضل والأقرب إلى الله، فهدفه من الدنيا هو تشكيل وعي أسرته، تشكيلاً صحيحاً مبنياً على قيم دينية ومبادئ دنيوية، أو بمعنى أصح يتمنى ويرجو من الله أن يصبح أولاده سفراء لدينهم ولتربيتهم التي تجبر أي شخص يتعامل معهم على الدعاء له.
فاللهم اجعلني وإخوتي، وجميع من يقرأ هذا المقال ممن يأخذون بيد أبيهم وأمهم إلى الجنة، وسبباً في سعادتهما دنيا وآخرة كما أسعدونا.. اللهم آمين.
لم يكفِني الحديث عن فضل أبي وكرمه وإحسانه معنا وتسامحه وطيبته، فلساني حقاً يصاب بالشلل عاجزاً عن التعبير، فمهما تحدثت لم أكفِه حقه.
في الحقيقة دور جميع الآباء والأمهات "ما عدا الحالات الاستثنائية" في حياة أبنائهم لا يمكن الكتابة عنها وإعطاؤه حقه من خلال الكلمات والتلاعب بالألفاظ، فالكلمات تعجز عن وصف المشاعر النابعة من القلب والتي تعطى دون انتظار المقابل، والقلم لا يستطيع كتابة دورهم في حياتنا ومقدار وحجم التضحية التي ضحّوا وسيضحون بها من أجل نظرة سعادة وفرحة من أبنائهم، فاللهم احفظ جميع الآباء والأمهات من كل شرّ، وبارك في صحتهم، وارحمهم أحياءً أو أمواتاً رحمة واسعة، اللهم آمين.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.