قرأت مقالاً يشيد بأداء هيفاء وهبي وعبير عيسى الرائع بلعنة كارما. أظن أن كاتب المقال زجّ بعبير عيسى ليبدو منصفاً في تقييمه للفن.
لا أعرف من أي منظار رأى أداء عبير عيسى باللهجة المصرية بدور امرأة لا أعرف ما هي مشكلتها مع الطموح الأعمى، ولكن مهما حاولت عبير عيسى، فإن ارتداءها لهذا الدور لا يمكن أن يجعلها حتى في منافسة مع شيرين رضا بمسلسل لدينا أقوال أخرى مع يسرا في دور المرأة الشريرة بجدارة (سيدة أعمال وصاحبة قنوات تلفزيونية)، فكيف تقف أمام صرعات هيفاء في مشهد واحد؟
أما هيفاء وهبي، فلا أعرف كيف يمكن تقييم تمثيلها، بينما تتسلط عيونها وشفاهها ومن ثم صدرها ومؤخرتها كل مشاهدها. لا يمر مشهد مع هيفاء وهبي إلا والمسكينة تضطر للمشي كعارضات الأزياء وبكعب عالٍ وعلينا أن نشاهدها ونقضي معها دقائق بينما تمشي وتجلس ونتأمل بعيونها الزجاجية اللون.
طبعاً، هيفاء بالإضافة إلى دورها الأساسي وهو نصابة عالمية ترأس عصابة نصب، تقوم بدور المستشارة الاجتماعية لأهل الكومباوند الذي تعيش فيه عبير عيسى التي يريدون لنا أن نراها وكأنها مارغريت تاتشر. وهيفاء محطمة القلوب وشافية الجروح، تحوم حول الرجال مرهقة في محاولة مساعدتهم من مشاكلهم الاجتماعية بسبب الغنى وحب هيفاء من طرف واحد. وهيفاء طبعاً تحب الرجل الذي نصبت عليه ببداية المسلسل، وهو يتستر عليها وهي مسكت عليه ممسكاً ولكن الحب الجارف بين عيونهما يغلب….
ما علينا… هيفاء تحدد طموحها، وكعادتها تعرف دورها بالعالم العربي القادم. فهي تستورد لنا كل الشخصيات العالمية بمحاولات تستطيع التأثير فيها على المشاهد العربي الذي يكتفي بالفن والتألق والإبداع بطلاء وجه وشفاه منتفخة وجسم مشدود ومشفوط ومنفوخ على حسب الطلب.
بعد جينيفر لوبيز وغيرها استقرت هيفاء على كيم كاردشيان، ولقد أصابت هذه المرة، وخرجت كيم من برنامج حياتها التافه هي وعائلتها (والذي يتابعه الملايين)؛ لتصبح ناشطة في حقوق المرأة وشدت الرحال إلى رئيسها ترمب لتدافع عن سجينة وتطلب لها العفو.
السجينة كانت رئيسة عصابة لتهريب وترويج المخدرات ولكنها تربت بالسجن بعد كل هذه الأعوام وينتظرها أولادها وأحفادها وبيتها وعملها، كما تدافع كيم.
بينما يستمع ترمب الرئيس وتتكلم كيم النجمة التي اخترعت لنا السلفي وابتكرت بمسابقات نفخ الشفاه والصدور وغزت مؤخرتها الإنترنت محطمة لأرقام المشاهدة، تخيلت المشهد السابق، كيم تجلس مع أخواتها وزوجها وأمها وزوج أمها وتقرر أنه حان وقت الزيارة للتجوال في البيت الأبيض، وعندما قررت أن تكون إنسانية أخبروها أن السجن إصلاح وتهذيب، وأن تاجرة المخدرات سوداء اللون هي قضية دفاع مهمة عن المرأة السوداء. كان ترمب يفكر بينما ينظر إلى كيم وهي واقفة إلى جانبه، بينما يجلس على مكتبه البيضاوي: "عملتها يا ترمب".
في فضاء آخر، كتب الصديق ناجح شاهين عن التعليم والشهادات في بلادنا، وكما يحدث بأغلب مقالاته، لا يسعني عادة إلا المشاركة المباشرة، توقفت هذه المرة؛ لأن الجرح في التعليم نازف. بين مسلسلات وعالم ترويجي استهلاكي كامل ينشر الأخلاقيات من خلال هيفاء وهبي وغادة عبد الرازق وباسل خياط وتيم حسن، أدوار تختلط فيها الأشكال لتمحو ما يظهر من حقيقة العمل، فالغنى والمظاهر والألقاب والحقائب والكعوب والأزياء الرجالية وصرعات الشعر والحواجب والذقون تغطي على حقيقة أدوار تمرر للمجتمع أن المخدرات والتهريب والأسلحة والكذب والخداع والبلطجة والانحراف يمكن التغاضي عنها، مقابل مظهر يجذب المستهلكين. فما كتبه ناجح هذه المرة أثار حملة الشهادات في بلادنا، الذين يندمجون بسهولة أمام مسلسل يحتاج البطل لإضافة رونق لدوره بوضع نظارة مثقف ولقب "د" قبل اسمه.
بينما كنت أقرأ التعليقات الممتعضة من مقال ناجح شاهين، مر أمامي شريط كامل من انهيار التعليم في فلسطين. التوجيهي الذي تحول إلى إنجاز بالاسم، فهرول الطلاب للإنجاز ووقعوا بالتوجيه الموصد من خلال كل حرف يعلم لهم.
فنحن نريد إبداعاً وإنجازاً، ولكننا في أرقى طموحنا نبدع في مسابقات صبري وتكنلجة المناهج التي لا يد لنا في إنتاجها.
وما يحدث في الجامعات، فمكاتب الخدمات التي تقدم الأبحاث والرسائل والواجبات باتت جزءاً طبيعياً من حياة الطالب. مصنع يُسهم الجميع في خراب هذا المجتمع. يتم وضع فيه ما هبَّ ودبَّ، ويخرج بنهاية المطاف بورقة كرتونية تمنح لقباً يتسابق أفراد المجتمع بالحصول عليه.
فليس غريباً أن مَن يقومون على التعليم في بلادنا لا يستثمرون بأبنائهم بمدارس وزاراتهم ولا جامعات بلادهم.
ولا أجد ختاماً لهذا أفضل من منشور ناجح شاهين، في تساؤله وطرحه:
كيف نحكم على سلعتي الصحة والتعليم؟
أثار منشوري عن الشهادات في فلسطين اعتراضات من بعض الأصدقاء من خريجي الجامعات المحلية الذين يظنون أنهم تلقوا تعليماً جيداً. ولكن المشكلة هي أن التلميذ/الخريج ليس في وضع معرفي يسمح له بأن يحكم على مقدار جودة السلعة التي قام بابتياعها؛ لأنه لم يكن يعرف في تخصصه عندما التحق بالتعليم. كذلك للأسف فإن ما اكتسبه من معرفة أو مهارات من جامعته هو تقريباً كل ما يعرف عن العلم.
ما أداره أن ما تدرب عليه شبيه بما يتدرب عليه الطلبة في جامعات أخرى أكثر امتيازاً في التعمق في التخصص أو التدريب على المهارات البحثية أو مهارات التفكير.. إلخ.
للأسف يبدو أن أضعف أنواع المستهلكين هم الطلبة والمرضى. كلاهما يشتري سلعة لا يعرف عنها شيئاً ولا يعرف إن كانت ستذهب به إلى الصحة والازدهار أو الجهل والهلاك.
المريض والتلميذ في وضع ضعيف ولا يستطيعان فيه الحكم على السلعة التي يشتريانها، بإمكان أي طبيب متوسط أن يوهمني أنه نطاسي عظيم ويمكن لأستاذ ضعيف أن يتظاهر أمام التلاميذ بأنه خير العلماء… لا أحد ينتج المعرفة في بلادنا أبداً: إننا نقوم بإلقاء دروس حفظناها على مسامع الطلبة بينما يقوم الطلبة بإعادتها حرفياً في الامتحان. وهذه هي الممارسة الوحيدة التي أعرفها في الجامعات المحلية كلها.
وهنا أختم بتساؤل: أين يعلم الوزراء وأصحاب السلطة ابناءهم؟ أين يرسل هؤلاء ومديرو ورؤساء الجامعات أبناءهم؟
نحن في عالم تتربع فيه كيم وهيفاء على طموح الأجيال.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.