الحداثة والهولوكوست.. كيف قتلت المجتمعات الإنسان؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/06/04 الساعة 11:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/06/04 الساعة 11:08 بتوقيت غرينتش

معسكر الموت

"سندخل من الباب ونخرج من المدخنة، لا اسم لكم، أنتما مُجرد رقم، ووشمن على أذرعنا أرقاماً كانت هي ألف ومائة واثنان وأربعون، ورقماً آخر أكبر هو مائة وثلاثة وسبعون ألفاً وسبعمائة وثمانية"، هكذا سرد جاك وسارة، الناجيان من غُرف الغاز في معسكرات إبادة اليهود "أوشفيتس" (1)، ما كان يحدث لهما في معسكرات الألمان، وكيف كانت تتصرف معهن الحارسات البولنديات على أساس أنهما لا قيمة لهما، مجرد أرقام في تعداد الموتى. وبعد مرور ما يقرب من 8 عقود على المحرقة والإبادة اليهودية المعروفة للعالم باسم "الهولوكوست"، هل تبرّأ المجتمع الألماني من وصمات العار التي تلاحقه؟

تقارير إعلامية تنبأت بأن وزارة المالية الألمانية تخطط لميزانية عامة تقرب من 93.6 مليار يورو إلى عام  2020، جزء هام من هذه الميزانية لإيواء ومعيشة اللاجئين (2) والكثير من المنظمات والجمعيات التي أُسست خصيصاً من أجل اللاجئين، فمثلاً منظمة "الجوب سنتر"، وهو مكتب العمل المسؤول عن السوريين بعد حصولهم على إقامة اللجوء ليقوم بدوره بإعدادهم للتكيف مع المجتمع الألماني، ويتحمل المكتب التكاليف كافة للاجئ السوري من رواتب شهرية تصل إلى مئات من اليوروات شهرياً للشخص البالغ، ويتكفل المكتب بالسكن وأثاثه وكل الفواتير اللازمة من مياه وأدوات معيشية (3)؛ ومنظمة "بروازول" وهي التي تختص بالدفاع عن حقوق اللاجئين أمام الرأي العام، لا سيما التيار الشعبوي اليميني في ألمانيا المناهض للجوء والمشجع للهجرة والترصد للاجئين والمشجع لأعمال العنف تجاههم .

أما عن منظمة "كريتاس" وهي كبرى المنظمات، فإنها تقوم بتعليم اللغة الألمانية فضلاً عن المساعدة في لمّ الشمل للعائلات، والمساعدة في الإجراءات الحكومية وعلى الحصول على المقاعد الدراسية في الجامعات، ويوجد لها مترجمون يعملون في كل الولايات الألمانية من أجل مساعدة اللاجئين (5).

البربرية والحضارة

هل تغيَّر المجتمع الألماني الصناعي وأصبح يُجمِّل ما تشوَّه منه منذ عقود؟ أم تغيرت الحداثة وأصبحت تساعد الإنسان بعدما كانت تنهي حياته كما رأى عكس ذلك، المؤرخ وعالم الاجتماع "راؤل هيلبرغ" في دراسته التي أتمها القرن الماضي بعنوان "تدمير اليهود الأوربيين"، فقال: "لم تكن آلية التدمير تختلف اختلافاً بنيوياً عن الطبيعة المُنظمة للمجتمع الألماني بأَسره؛ بل كانت هي المجتمع المنظم نفسه وهو يؤدي أحد أدواره الخاصة" (6)، أو كما قال الرجل اللاهوتي الذي يدرس الاجتماع ريتشارد روبنسون، ورأى أن الدروس المستفادة التي توصل إليها من دراسة ظاهرة الهولوكوست أنها شاهدُ عيان على تقدُّم الحضارة الغربية، وأنها تدلل على استمرار التقدم.

وعبَّر عن أن الحضارة كما تُشير إلى نظم الوقاية الصحية والأفكار الدينية الوسطية والفن الجميل والموسيقى الرقيقة والحياة العادلة، أيضاً تُشير إلى العبودية والاستغلال والحروب والإبادة ومعسكرات الموت، وشبَّه البربرية بالحضارة، والإبداع بالتدمير، هما وجهان للحضارة (7).

الإنسان والتكنولوجيا

ولكن إلى وقتنا هذا، تحدث تلك الجرائم والإبادات وبشكل بربري في لباس تكنولوجي حضاري، فاستُخدم السلاح الكيماوي بالطائرات القاذفة له بدلاً من الأفران ومعسكرات الغاز مثلاً، ويظل الإنسان عاجزاً أمام تلك الجرائم.

يرى كريستوفر براونينغ، مؤلف كتاب "البيروقراطية الألمانية والهولوكست"، أن ضعف النفس البشرية في لحظات تختفي فيها كراهية الإنسان للقتل ونبذ العنف والخوف من تأنيب الضمير، هذه اللحظات تَظهر بوضوح عندما يواجه الإنسان أعظم إنجازات الحضارة مثل التكنولوجيا، وبراغماتية الاقتصاد، ويبرهن على أن المجتمع الألماني مَهَّد سريعاً لتلك الإبادة وأنه ليس نتاجاً تكنولوجيّاً أفرزته الصناعة المتطورة فحسب؛ بل كان نتاجاً تنظيمياً أفرزه المجتمع الألماني البيروقراطي حينذاك (8).

الحداثة والعنصرية عند باومان

لماذا لا يقال عن مجزرة "هيروشيما وناغازاكي" إن الحداثة سبب رئيسي في حدوثهما، مع أن التفوق التكنولوجي وإظهار القوة العسكرية التطورية للولايات المتحدة الأميركية خير دليل على ذلك. ومع ذلك، لمْ تتداول في المؤلفات على أنها بربرية في لباس حضاري، يشرح أستاذ الاجتماع البولندي زيغمونت باوملن كيف جاءت الحداثة وهي تصطحبُ معها العنصرية، ويؤكد أن في عصور ما قبل الحداثة كان اليهود جماعة من الجماعات وطبقة من الطبقات، ولم يمثل تميُّزهم أي مشكلة. أما مع بداية الحداثة، صارت عزلة اليهود مشكلة، فكان لا بد من إخضاعها كأي ظاهرة أخرى خضعت أمام المجتمع الحديث، وهنا يقصد بالحديث التخطيط التكنولوجي والإقناع العقلاني والتشييد والتصنيع والإدارة والرقابة.

أما عن المسؤولين، فكان بإمكانهم في مجتمعات ما قبل الحداثة أن يلعبوا الدور المتواضع الهادئ الذي يلعبه حارس منطقة الصيد، فيحرسون مجتمعاً يعتمد على موارده الذاتية ويعيد إنتاج نفسه تلقائياً عاماً بعد عام وجيلاً بعد جيل دون تغيير ملحوظ.

أما المسؤولون عن المجتمع الحديث، ففي الأزمنة الحديثة لا يمكن التسليم بأي شيء وما ينبغي لشيء أن ينمو إلا وزرعه المجتمع بنفسه؛ لذلك يحتاج الإنسان الحديث إلى رؤية البستاني ومهاراته لا إلى حارس منطقة الصيد (8).

أما عن الخوف الذي صدر -وما زال يصدُر- عن الجماهير، فانقسم إلى حالتين؛ حالة تأييد تام وحالة خوف تام، عن الهولوكوست قديماً أو دول المنطقة العربية حاضراً، لا سيما سوريا، حدث القتل والجرائم اللإنسانية أمام الجميع ويرتصُّ المؤيدون والخائفون على هامش واحد بجانب القوة، فكلاهما كان رد فعله نتيجته القوة، وحتى قديم الزمان عندما كان يفترس الأسد الإنسان ليضحك الملك ونبلاؤه كان السكوت الجماعي لهذين السببين، فقادة القتل الجماعي رأوا أنه لا بد من قتل اليهود لأنهم يستحقون الموت، وهم الواقفون حائلاً بين الواقع الذي يفتقر إلى الكمال ويسوده الاضطراب وعالم يأمل الناس أن يجلب لهم السعادة والطمأنينة. وسجلت الباحثة سارة جوردن مزيداً من الترحيب من الألمان البسطاء تجاه إقصاء وعزل اليهود من مراكز القوة والمسؤولية والثروة ومن التفاعل المجتمعي، فكان الاختفاء التدريجي لليهود يحظى بترحيب كبير يمهد للإبادة التي حدثت، وأصبحت المسألة اليهودية بالنسبة لهم تخضع لأوامر السلطة تفعل بها ما تشاء إن أرادت أحيتهم أو قتلتهم (10) كبعض الجماعات الإرهابية من وجهة نظر بعض الأنظمة العربية والعالمية.

الحداثة والاستبداد

وما الإبادة في أي شكلٍ من أشكالها إلا تأسيس لديكتاتورية سياسية نظامية تحكم البلاد والعباد بالسوط التكنولوجي الفائق التطور، والسجون، والإعدامات، والمجازر الجماعية، والغازات السامة، وأساليب التجسس والمراقبة فائقة السرعة والإمكانية. وهاجس تكرار الإبادة اليهودية ما زال يوجد عند أُناس بعينهم وطائفة وعِرقٍ بعينه، فالروهينغا يتعرضون للقتل الجماعي في ميانمار على أساس تفوُّق عِرق القاتل على المقتول، فمن المؤكد أن مسلمي الروهينغا لا يشكُّون -ولو للحظة- في أن يتجمعوا في يوم من الأيام بمعسكر للإبادة الجماعية يُشبه معسكر النازية القديم.

أما بالنسبة لليهود، فمن المؤكد أنهم يعيشون في عالم تطارده فكرة إمكانية وقوع محرقة جديدة. ويرى إيميل سيوران الخوف يعني أن تفكِّر في نفسك باستمرار، وأن تكون عاجزاً عن تصور موضوعي للأحداث. الشعور بالرعب، الشعور بأن كل ما يحدث ضدك، يفترض عالَماً دون مخاطر محايدة (11).

وماذا عن القتلة؟ القاتل هُنا هو آلة في المجتمع الحديث، تتوافر عنده صفات الإنسانية مع البشر إلا من ينفذ عليه العقاب، والقتل هنا يختبئ في قيم أخلاقية حضارية بُنيت بعدما سمعت الضحية، وكان الاقتناع التام عند القاتل بأنه يخدم الحضارة ويساعد الدولة على التقدم، يقول روبرت جونسون في دراسته "صناعة مكافحة الجريمة"، بعدما نفذ تجارب عملية لما كان يفعله المنفذون للإعدامات قبل تنفيذهم الحكم، فقال إن تحويل إجراءات القتل أصبحت روتيناً لديهم، فقد تحرروا من مشاعرهم تجاه ضحاياهم وحيّدوا الاعتبارات الشخصية.  

وذكر جونسون أنه عندما قابَل الضباط المشرفين على عمليات الإعدام، قال أحدهم: "إن إدراكي حقيقة الزيارة العائلية الأخيرة للسجين تُشعرني بالضيق كثيراً، وعلينا أن نتذكر أن حراس زنازين ما قبل الإعدام لا ينعمون بالرفاهية التي استمتع بها منفِّذو الهولوكوست، حيث كان لديهم متَّسع من الوقت بتكوين علاقات شخصية مع السجناء"، ولكنه قال أيضاً: "من المفترض أن ذلك جزء من الوظيفة مثل وظيفة الطبيب عندما يفقد أحدَ مرضاه خلال عملية جراحية" (12).

هكذا كانت الإبادة، وهكذا كان القاتل وكانت الحداثة والبيروقراطية، ولكن على سبيل المثال، ألا توجد دولة حديثة بيروقراطية تنفي أسباب المعادلة وتُجرّم الإنسان وحده بعيداً عن التحديث والحداثة؟!  

المصادر

1- أوشفيتس.. معسكر إبادة اليهود 

2- تعرف على تكاليف اللاجئين بالنسبة لألمانيا!

3- 6 منظمات تساعد اللاجئين السوريين في ألمانيا!

5- caritas

 The Destruction of the European Jews -6 

7- كتاب ريتشارد روبنسون the cunning of history

8-  كريستوفر براونينيج the german bureaucracy and the holocaust ص 148

9-  زيغمونت باومان، كتاب "الحداثة والهولوكست"، ص123.

10- سارة جوردن، "هتلر والألمان"، ص171

A Short History of Decay – 11

12- روبرت جونسون study of the modeern excuation process

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
أحمد عبد الحليم
كاتب وباحث مصري في قضايا السياسةوالاجتماع
كاتب وباحث مصريّ، له العديد من المقالات والدراسات والتحقيقات المنشورة باللغتين العربيّة والإنجليزيّة في عدد من المؤسّسات البحثية والمنابر العربية. مؤلّف كتابي «الحارة العربيّة» و«أجساد راقصة»، صدرت عن دار الجديد، بلبنان عام 2021.
تحميل المزيد