هل أُحبُّ الله وراثةً؟!

عربي بوست
تم النشر: 2018/06/02 الساعة 07:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/06/01 الساعة 13:51 بتوقيت غرينتش
A young man praying for the answers

أرفع عيني إلى السماء أتأمل صفحتها في هدوء لن يتكرر، فسواد الليل أسكت كل همس حتى نبض قلبي، أشعر أن قدميّ ترتفعان عن هذا السطح الذي طالما قيدها بقيود لا تفارقها ما أن تنفك عن إحداها حتى تلتصق بالأخرى، الآن انفصل بالكلية عن تلك البقعة الصماء، أسبح في فضاء واسع حيّ في رحلة بحث عن معلوم، ولكنه معلوم بالوراثة لم يلامس شيئاً مما أملك من حواس، لا أعلم لماذا ذهبت عيناي في البحث إلى أعلى ولم تتخذ أياً من الاتجاهات الأخرى، وكأن هذا الطريق من كثرة سالكيه قبلي أصبح له معالم فتحسست عيني تلك المعالم بفطرة فُطرت هي عليها، الآن أشعر أنني لست بحاجة إلى هاتين اللامعتين وكأن مهمتهما قد انتهت، الآن أسدل تلك الجفون على عيني وأبدأ رحلة البحث.. البحث عن الحقيقة.

  تعلمت الصلاة عن أبي، كنت أقلده في كل حركة وسكنة وتكبيرة وتسبيحة، لم تكن الصلاة فقط التي أقلده فيها بل كل شيء، حالي كحال أي طفل شرعه في الفعل فعل أبيه، ظللت على حالتي تلك طيلة عمري أنتقل من تقليد إلى تقليد ومن منسك إلى آخر، فذاك العام هو عام تعلمت فيه الصلاة ويليه عام الصيام ثم الصدقة، لم يتوقف الأمر عند كونه تقليداً بل أصبح تطبّعاً، فعندما أخرج من حرم الأسرة إلى ساحة المجتمع كانت تضاف إلى حصيلتي أمور أخرى لها من القداسة مثل ما ورثته عن أسرتي، إلى أن استوقفني مشهد قرآني جعلني أعيد النظر في الأمر برمّته مرة أخرى، وهو مشهد متكرر في سورة هود تعرضه لنا تلك الآيات:

 "قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُواً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ" (هود: 62).

"قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ" (هود: 87).

"فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ" (هود: 109).

فهؤلاء فعلوا مثلما فعلت بالضبط، فهم بتلك الثقة التي زرعت في الطبيعة البشرية تجاه آبائهم قلدوهم وتمسكوا بما قلدوهم فيه وأصبح هذا التقليد إرثاً يبذلون كل جهد للدفاع عنه، وفي نفس الوقت ينتابهم الشك، ومما علق بذهني بل والتصق به بعد تأمل هذا المشهد أن الفكرة التي تُبنى قواعدها على التقليد هي فكرة هشّة ما بالك إذا كانت تلك الفكرة هي صلب العقيدة، والتي لا يحدها حد عالمنا فقط، بل تمتد إلى عالم آخر مجهول سمته الرئيسية الأبدية: ماذا لو كنا على خطأ؟!

  سلمان الفارسي هذا الرجل الذي لقّبوه بالباحث عن الحقيقة هو أيضاً همه ما أهمنا ولم يكتفِ بهذا الإرث الذي شعر بهشاشته بل انطلق في البحث عن أساس صلب يشعره بالأمان، ويدفع عن عقله حلقة الشك التي لا تزال تدور حوله إلى أن وصل إلى مراده وأصبحت حياته حياة آمنة، وبكل ثقة ينتظر الانتقال إلى الدفة الأخرى؛ حيث العالم الأبدي.

  من وقتها انطلقت أنا الآخر في البحث فأنا لم أكن أستطيع أن أكمل حياتي بهذا الشك والذي لم يتوقف يوماً عن تصدير الخوف إلى قلبي، لقد مرت عليّ ليالٍ لم أستطِع فيها النوم، فهناك سؤال مفترس ينهش في عقلي بوحشية ليس لها مثيل: ماذا لو؟!، فذهبت أركض في البحث وحدي في هدوء، أكتشف أن معرفة الحقيقة ليست بالأمر الصعب، فالطريق إليها معبّد وطُبعت على الأرض آثار من كثرة سالكيه، وكل عابر ترك خلفه نبراساً وكأنه كان يعلم يقيناً أنه لن يكون العابر الأخير، فسلمان لم يكن وحده من عبر بل هم كثر.

  عدنا ولكن بيقين صلب لا يقوى عليه شيء، فلقد عرفنا الحقيقة، لقد عرفنا الله، واقتطعنا لتلك المعرفة سنوات غالية من أعمارنا، عدنا بإيمان عميق وُلد من رحم المعرفة، فالإيمان بالله ليس إرثاً يورث، بل هو قناعة تنتجها المعرفة، تلك المعرفة استهلكت كل حواسنا، فلقد عرفنا الله بأسماعنا، وعرفناه بأبصارنا، ثم تجلت قلوبنا لتحسم الأمر، فلقد عُدنا بحب امتلك القلب والجوارح، إننا الآن لا نحب الله وراثة بل نحبه معرفة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
عبدالله حمادة
صحفي مصري
تحميل المزيد