يبدو أن جموداً عميقاً أصاب الفلسفة بالشلل، فأفلت منها طرف الضوء الذي لطالما تمسك به الناس عبر العصور، خصوصاً في الأوقات العصيبة والمضطربة والقلقة في حياة البشرية؛ لأنه بمثابة الخلاص الذي بفضله تتبدد الظلمات السرمدية السحيقة التي يسقط فيها الإنسان، وتجعله يحس بالضياع والغربة والانفصام، فيأتي أفعالاً منافية لطبيعته وجوهره، تتعارض بشكل صريح مع الغاية من وجوده وحياته وعلاقاته بغيره من البشر، وهذه نتيجة منطقية لتغييب العقل الواعي الباحث عن الحقائق المتسترة والمتخفية، الملتمس للحق الخالص في بواطن القضايا، وسط بحر لجيّ من الزيف والتضليل والخداع.
توسّعت رقعة الحرب، وازداد حجم الانهيار الأخلاقي والقيمي في علاقات المجتمعات بعضها ببعض، وانتعشت تجارة القتل بشكل مقزز جداً، في ظل انحسار دور الفلاسفة وتأثيرهم الفكري على الحياة المعاصرة، إلى جانب نأيهم عن مهاجمة نوازع الشر وفضح انعكاساتها على الواقع كفكر وممارسة، برغم توفّر منصات إعلامية ومعرفية كبيرة تتيح لهم العمل بحرية على نشر أنوار الفلسفة، والوصول من خلالها إلى عقول ووجدان ملايين البشر، وتشريح القضايا التي يواجهونها ويعيشونها داخل هذه القرية الصغيرة، بأدوات تفكير لا تنتصر سوى للحق والحقيقة والمنطق والجمال والأخلاق.
عوضاً عن ذلك، وهي نقيصة فيهم، فقد ترك الفلاسفة المجال فسيحاً أمام تعاظم النظرة الأيديولوجية الممزوجة بالنزعة السياسية الشريرة لبعض القادة والسياسيين ورجال الدين، المتمسكين بنهج "نيقولا مكيافللي" كمرجع مهم لهم، رغم أنه يدوس على الأخلاق بشكل صارخ في مجال الممارسة السياسية، مستندين أيضاً على التفسير الذي سكّه "هنتنغتون" حول صراع الحضارات، والذي ساهم بشكل كبير في تغذية الانقسام بين مجتمعات العالم وفق ثقافات متناحرة لا متصالحة ومتعايشة، فصارت حياة بعض المجتمعات والدول رخيصة وهينة أمام الرغبة في التملك والسيطرة، تحت ذريعة صيانة المصالح الحيوية والاستراتيجية لدول ومجتمعات أخرى أو حتى فرد واحد، دون أن تجد هذه التجاوزات الأخلاقية صوت فيلسوف منصف يصدح بالحق ويستهجن هذه التجاوزات التي لطالما حاربتها الفلسفة منذ وجودها، بنفس المقدار الذي استماتت من خلاله في الدفاع عن قيم الإنسانية ومنابع الفضيلة والخير في داخل الإنسان.
إذا استعرنا قول "كافكا": (أليست الكتابة هي القفز خارج صف القتلة)، أفلا يكون هذا التوصيف أولى بأن يكون، اليوم، لصيقاً بالفلسفة أكثر من أي صنف آخر من أصناف المعارف والآداب والفنون الإنسانية؟ فالفلسفة يجب أن تقفز خارج صف القتلة، وتعري أفعالهم وتهاجم بلا رحمة كل هذا الطغيان والتوحش الذي طبع البشرية وجعلها تعيش داخل دائرة مفرغة من الصراعات والقتل بالجملة، دون وخز ضمير، ما يهدد فعلاً بهلاك حتمي وشيك إذا لم يستيقظ فكر الفلاسفة، ولم يعلُ صوتهم فوق صوت الساسة الأراذل والكهنوت المتطرفين، الذين، للأسف، باتوا يمتلكون أسباب القوة ويفرضون منطقهم على الدول والمجتمعات، رغم الصلف والجهل والعمى والجبروت الذي يميزهم، تماماً كما قال أرسطو: "المثل القائل لا تعطي الطفل سكيناً، معناه لا تضع القوة في أيدي الأوغاد".
لماذا خفتَ صوت الفلاسفة، وقلّت كتاباتهم وظهورهم خلال العقود الأخيرة، رغم تعاظم الانتهاكات والمآسي الإنسانية؟ هل هو راجع إلى عقم الفكر الإنساني الفلسفي؟ أم إلى عجز المجتمعات عن إنجاب فلاسفة عقلانيين لا يميلون إلا إلى جانب الحق والحقيقة؟ تماماً مثلما كان عليه أسلافهم، الذين دافعوا عن قيم السلام والعدالة والحرية، وأعلوا من شأن العقل في سعيه الحثيث نحو الحقيقة والصدق، أمثال الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانت" الذي لطالما وقف موقف الرافض للحرب بين بني البشر، تحت أي مسمى وذريعة بما فيها الحرب العادلة؛ لأن الإنسان، في اعتقاده، إذا خاض الحرب، فهذا معناه لا يبقى عدل على الأرض.
أصبح نادراً أن يبرز فلاسفة يحاربون بفكرهم وأقلامهم كل هذا الطغيان والموت الذي يعتصر ملايين البشر بين شدقيه، فلا أثر لخليفة فيلسوف العدالة والسلام، "برتراند رسل"، الذي لطالما دافع عن الإنسانية والسعادة البشرية، وسخر كل إمكاناته للقضاء نهائياً على مصادر الألم الإنساني، معترضاً على كل أنواع الكراهية والحقد والقسوة الزائدة، ناقماً وفاضحاً للفظاعات التي تتركها أعمال الساسة الذين لا همّ لهم سوى الاعتداء وتدمير مقدرات الشعوب وحضاراتهم، أو استئصال هذه الشعوب عن بكرة أبيها، باستخدام أسلحة تهدد بقاء الجنس البشري، وهو الذي صدع بالحق بكل شجاعة وقال: "إذا كانت الأسلحة النووية ستستخدم لا محالة، في الحرب القادمة، ونظراً لأن هذه الأسلحة تهدد بقاء الجنس البشري، فنحن نهيب بحكومات العالم أن تدرك، وأن تصرح علناً، أن مراميها لا يمكن أن تخدمها حرب، وإنما خلاص العالم، مرهون بالإيمان والشجاعة، الإيمان بالعقل، والشجاعة في إعلان ما يظهره العقل على أنه حق".
وغير بعيد عن "برتراند رسل"، نحا الفيلسوف الفرنسي " جان بول سارتر" نفس المنحى، في الوقوف على النقيض مع موقف استعمار بلده للجزائر، فهاجم بلا هوادة الوحشية والقسوة التي جُوبِهَ بها الجزائريون في ثورتهم نحو الخلاص والحرية، وناضل باستماتة كبيرة من أجل كرامته وانعتاقه، حتى إنه ألّف كتاباً سمّاه "عارنا في الجزائر"، وكانت له إسهامات كبيرة فكك من خلالها الميكانيزمات السياسية والاقتصادية للاستعمار، ودعا صراحة إلى مجابهة هذا النسق، وأرجع الفساد الذي استشرى في "المستعمرات" إلى فئة شريرة تعتمد على التضليل والخداع، وهي مواقف عرضت حياته للخطر كذا مرة، لكنه لم يتراجع، فقد ثبت وكانت مواقفه صارمة جداً ولا ترحم ساسة بلده، حتى إنه في إحدى مقالاته وصف فرنسا بـ"الكلب المسعور الذي يجر بذيله طنجرة، ويزداد هلعاً يوماً بعد يوم، نتيجة ما يحدثه بذاته من صخب، فلا أحد ينكر اليوم، أننا توخينا تخريب وتجويع وتقتيل شعب مغلوب على أمره؛ كي نركعه، لكنه بقي صامداً. السؤال: بأي ثمن؟!".
كثيرون، نعم، هم المفكرون والإعلاميون الذين يقاومون اليوم تيار العنف والحرب التي تقودها دول أو مجموعات أو أفراد تغلب عليهم النزعة الشريرة، لكنهم قليل أولئك الفلاسفة الذين يفعلون ذلك علناً من خلال تفكيك هذه النزعات والدعوة من أجل تغليب الخير المتأصل في الطبيعة البشرية، وهو موضوع يثير الكثير من الأسئلة حول وجود الفلسفة ومستقبلها، في ظل إفلاسها وعقمها الملحوظ في توليد الأفكار والرؤى السليمة التي تجمع البشر ولا تفرقهم، وفق انتماءاتهم الدينية أو الثقافية، فهل نحن حقاً أمام موت سريري للفلسفة التي لطالما أخرجت الإنسان من مرتبة الحيوانية، وحياة البهيمية التي لا تعرف سوى إشباع الغرائز، ولو بقتل أبناء الجنس الواحد من أجل العيش وفق "قانون الغاب"؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.