بعد انتهاء النصف الأول من رمضان، وبعد أن انتهينا من "صايم ولّا زي كل سنة" وبعد أن انتهى الجدل حول جدوى الملايين التي يتم إنفاقها على صناعة المسلسلات، بعد أن كففنا عن الشكوى من حر الصيام في الصيف، وبعد أن سألنا عن كل فتاوى مسببات الإفطار، وبعد أن واعدنا بعضنا للمرة المائة بعد الألف أنه "لازم نفطر يوم مع بعض"، بعد أن استقررنا على المسلسلات التي سنتابعها، وبعد أن انقضى من تلك المسلسلات ثلث حلقاتها تقريباً واتضحت الأمور، آن الوقت الآن أن نكوّن رأياً عن تلك المسلسلات.
ولأننا نسلم أدمغتنا وأمزجتنا بالكلية لشاشة التليفزيون في رمضان، فإننا بالتبعية نأمل في أن نرى دراما ممتعة ومحكمة وتحترم عقلياتنا، هذا لا يتحقق بالطبع في كل المسلسلات، هنا يأتي دورنا كمهتمين بالكتابة في الفن أن نفنّد الأمر.
في هذا المقال نستعرض جانباً من دراما رمضان هذا العام، وبما أن الجميع يكتب عن الإيجابيات قررنا أن نتحدث معاً عن أبرز الأمور التي استهانت فيها الدراما هذا العام بعقول المشاهدين.
"على الله محدش ينخرَب ورانا"
هل تذكر هذا الإفيه من فيلم الناظر؟ يصلح هذا الإفيه للاستخدام في كل المرات التي يأمل فيها صنّاع العمل الدرامي أن تفوت على المشاهدين أحد الأخطاء التي يرتكبونها، توحي الجملة بافتراض أن الأخطاء مقصودة أو على أقل تقدير معروفة لهم حتى لو لم تكن مقصودة، هذا حقيقي بشكل ما، فإنه من الصعب جداً أن تفوت مثل هذه الهفوات على طاقم عمل كامل فيه مخرج ومساعد مخرج ومديرو إنتاج وراكور، بالتأكيد هم يعرفون أخطاءهم ولكنهم يأملون ألا يكتشفها الجمهور.
على سبيل المثال في مسلسل اختفاء، تحكي نيللي كريم عن أول تعارف بينها وبين هشام سليم، فيستعرض المخرج المكان الذي تقابلا فيه من الخارج والداخل، يتعرف المشاهدون على "كازينو الشاطبي" الذي أُعيد تجديده مؤخراً ولم يفتتح سوى هذا العام، رغم أن الأحداث تدور في 2015، مما أحدث ربكةً للجمهور في الخط الزمني الذي تدور فيه الأحداث.
ثم منذ اليوم الأول لعرض مسلسل "كلبش" الذي لاقى أصداء إيجابية في موسمه الأول العام الماضي، يكتشف الجمهور هذا العام أن الموسيقى التصويرية مأخوذة من مسلسل جيم أوف ثرونز الشهير، الغريب هنا أن المسلسل ذائع الصيت ومن أشهر المسلسلات الملحمية، والجمهور المصري والعربي أصبح متابعاً جيداً للدراما الأجنبية، فكيف يراهن صناع "كلبش" على جهل الجمهور المصري؟ أم أن الأمر لم يخرج عن كونه استسهالاً بُولِغ فيه؟
مقطع تبرز فيه الموسيقى التصويرية
ثم هناك المكان الذي يتقابل فيه كل الممثلين في كل المسلسلات وكأنهم متعاقدون معه، نيللي كريم تقابل فيه صديق زوجها المختفي في مسلسل اختفاء، وثراء جبيل تقابل صديقها فيه، غالباً على نفس المنضدة في مسلسل الرحلة، دون أي تغيير في الديكورات، غالباً هذا هو أقرب كافيه لمدينة الإنتاج الإعلامي!
أما عن مسلسل نسر الصعيد فحدّث ولا حرج، أخطاء منطقية بالجملة وتصاعدات درامية غير مبررة، وانفعالات مبالغ فيها من الأبطال على الجانبين السلبي والإيجابي، فمعظم المشاجرات تولد من لا شيء وهدفها الوحيد أن يقوم محمد رمضان بضرب أكبر عدد ممكن من الممثلين، أو طيبة مبالغ فيها لمحمد رمضان أيضاً وكأنه جمع الحسنيَين.
أما قمة الإعجاز والاستخفاف بعقل المشاهد فكانت عندما قام البطل المغوار بغزو قرية استعصت على الشرطة لمدة عشرين عاماً أو يزيد، ولم يستطع أحد القبض على المجرم المحتمي بها والصادر بحقه سبعة أحكام بالإعدام، ينجح محمد رمضان في غزوها هو وثلاثة من زملائه!
المشاهد الناقد
مع كثرة الأعمال الدرامية، ومع كونها أحد المحددات الأساسية التي تميز رمضان في مصر، وحيث إن المشاهد أصبح أكثر انفتاحاً على الكثير من الثقافات والمسلسلات من جميع أنحاء العالم طوال العام، ارتقى ذوق المشاهد إلى حد كبير، فأصبح لا يقنع بمجرد حدوتة تحكى له فقط، بل أصبح يعرف ماذا تعني الحبكة، وكيف يميز الصورة الجيدة والإخراج المتميز، والأداء التمثيلي أصبح محل نقد من المشاهد العادي أكثر من ذي قبل، ولذلك فإن مثل هذه الأخطاء لم تعُد مستساغة، وأصبحت الآن مرئية أكثر من ذي قبل، والمشاهد أصبح يعترض على تسخيفه ومعاملته وكأنه غبي لا يفهم ولا يلاحظ، ويمكن أن يفوت أخطاء لا يمكن تجاهلها.
انفتاح السوشيال ميديا أيضاً أسهم في ذلك، فالأمر الذي يلاحظه أحد المشاهدين يكفي فقط أن يقوم برفع صورة له على أحد حساباته على السوشيال ميديا والحديث عن الخطأ فيه؛ لتجد آخرين يدلون بدلوهم ويستخرجون أخطاء أخرى وتحتدم المناقشات، خاصة مع إمكانية الوصول لحسابات الممثلين والنجوم على السوشيال ميديا، مما يتيح للمشاهد في أحيان كثيرة أن يتواصل مع النجم.
ربما حدث هذا من كثرة ما تعرض له المشاهد من حبكات ودراما مصنوعة بذكاء، فالفضائيات أسهمت في تفتيح عقل المشاهد على بلاد أخرى بإمكانها صناعة مسلسلات تتجاوز عدد حلقاتها المائة وأكثر وتدور في فلك قُتل بحثاً كالرومانسية التركية مثلاً، ومع ذلك تكون تلك المسلسلات محكمة ومحبوكة يعجب بها المشاهد وتمرن عقله على تمييز الدراما الجيدة من السيئة، وترفع معايير الحكم، وترتقي بذائقته الفنية.
أيضاً الإنترنت المفتوح على مصراعَيه أمام الشباب، والذي يجعلهم يشاهدون المسلسلات الأميركية والبريطانية في نفس توقيت عرضها في بلدها جعل معايير الجودة لديهم تعلو ويعلو سقف ما يتوقعونه من الدراما، فهم فهموا أن الأمر أكبر من حكاية تدور في ديكور رخيص، وكاميرا تدور بلا توقف، عرفوا معنى الإبهار والتجديد والحرفية في الارتقاء بالدراما كصناعة لها احترامها، كل هذا جعلهم يعرفون الأخطاء عندما يرونها، وعندما يعرفونها لا يقبلون وجودها بسهولة.
"الحلو ما يكملش"
رغم أن هناك الكثير من المسلسلات الجيدة التي تخرج من عباءة الدراما المصرية، فإنه دائماً – في الغالب – هناك شيء ما ناقص، رغم أننا رواد في إنتاج الدراما العربية، إلا أننا تعثرنا كما تعثرنا في كل شيء آخر في الحياة، فلم نلحق بركب صانعي الدراما الحقيقية التي تعتبر صناعة هامة مؤثرة في الاقتصاد.
ربما تكون الحبكات جيدة والتمثيل جيداً، والرواية المأخوذ عنها المسلسل ذائعة الصيت وناجحة، والتمثيل جيداً جداً والمسلسل ككل يعتبر إضافة حقيقية لصانعيه، مثل مسلسل أبو عمر المصري، إلا أن مخرجه يقع في خطأ ساذج لا يخرج من هواة، كخطأ في راكور مشهد واضح جداً.
مخرج العمل ليس مبتدئاً ليقع في مثل هذا الخطأ، فالمخرج أحمد خالد موسى له أعمال قوية حظيت بقبول جماهيري ونقدي واسع، كفيلمه الأخير مع أحمد السقا "هروب اضطراري" الذي استطاع فيه تنفيذ مشاهد حركة صعبة جداً تليق بمخرج محترف، ولكنه في هذا المشهد يرتكب خطأ ساذجاً، وكأنه لا يعرف معنى الراكور.
أما مسلسل "ليالي أوجيني" الذي يعترف له الجمهور هذا العام بأنه من أفضل المسلسلات، إلا أن أخطاء تعتبر المشاهد لا يرى ولا يلاحظ وتستخف بتركيزه وتعتبر أخطاء تافهة كخطأ المجاميع التي تختفي قبل أن ينتهي المشهد
أو راكور متمثل في نوتة تظهر مرة مفتوحة ومرة مغلقة في نفس المشهد ، والتي أيضاً لا تخرج من مخرج بحجم هاني خليفة، الذي شهد له الجميع في العامين الأخيرين في مسلسلَيه "فوق مستوى الشبهات" و"الحساب يجمع" بأنه من أفضل مخرجي الدراما.
أما ياسر سامي مخرج "نسر الصعيد" الذي لم يهتم بضبط الكادر بحيث لا يظهر الجمهور الواقف ليتفرج على المشهد من بعيد، والكردون المحيط بأبعاد المشهد الذي يصوره (4)، فإن هذا الخطأ يعتبر هيناً بالنسبة لجملة الأخطاء التي يعج بها المسلسل.
السبب في هذا – في الغالب – يعود لاستهتار المشتغلين بصناعة الدراما في مصر بعملهم، فالموسم الرمضاني معروف توقيته ومتى سيأتي بالضبط، ومع ذلك وفي كل عام يتأخر تصوير المسلسلات ويتم التصوير أثناء رمضان وينتهي بانتهائه، والحلقات تصور وتدخل المونتاج في نفس يوم عرضها تقريباً مما يجعل التفاصيل تخرج عن السيطرة، وتسبب صعوبة في متابعة المسلسل بنفس جودته حتى إذا كانت كل العناصر تتضافر لتقدم مسلسلاً جيداً.
الاستسهال سيد الموقف
بالطبع من الصعب جداً تقديم عمل كامل ليس به أي أخطاء، الخطأ وارد جداً، خاصة أن ثقافة اعتبار السينما والتليفزيون صناعة لها احترامها ويجب أن يتم إتقانها والاعتناء بكل تفاصيلها ليست ثقافة أصيلة لدى المصريين، ولكن يبدو أن الاستسهال يطال كل ما يعرض على المشاهد المصري عبر التليفزيون في السنوات الأخيرة.
مثلاً برامج المقالب التي شبع منها العالم وكفّ عن إنتاجها، ما زال المصريون شغوفين بصناعتها مثل برنامج رامز جلال الذي من فرط استهلاكه لم يفلح في استكمال حلقته مع لاعب الزمالك شيكابالا، فقد انتهت الحلقة في منتصفها بعد أن وضح شيكابالا أنه فهم أن الشخصية التي أمامه ليست امرأة، وأنها لا تتحدث الإسبانية، وإنها بالطبع ليست أخت كوبر مدرب المنتخب.
حتى الضيوف الذين هم في الغالب وكما يشاع دائماً على علم بالمقلب من قبل حدوثه إلا أن الاستكفاء من هذه النوعية بلغ مداه، وحلقة شيكابالا مع رامز جلال خير دليل.
الشاهد من الحديث عن برنامج رامز جلال هنا رغم أننا نتحدث بشكل أساسي عن الدراما هو توضيح أن الاستسهال -للأسف- يطال صناعة التسلية في مصر بشكل عام، مفهوم صناعة التسلية ليس واضحاً بعد، التسلية في مفهومنا ما زالت تعني الحشو وملء الفراغ والوقت بأي شيء حتى لو كان غثاً، وهذا عين الخطأ، خاصة في زمن انفتاح الميديا الذي نعيشه الآن.
نحن لدينا كل الأدوات والإمكانيات التي تمكننا من صناعة محتوى مرئي محترم، يحترم المشاهد ويحترم ذائقته الفنية ويحترم عقله، كل ما علينا هو أن نبذل قليلاً من الجهد، ربما هذه هي المشكلة الحقيقية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.