أسقطوني عمداً 6 مرات في الجامعة.. لباريس وجهان

عدد القراءات
4,392
عربي بوست
تم النشر: 2018/05/30 الساعة 14:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/06/08 الساعة 14:19 بتوقيت غرينتش
Front view of a displeased young woman looking at camera.

كان خبر اختيار مريم من قِبَل الطلاب الدارسين في جامعة باريس 4 الواقعة في قلب العاصمة الفرنسية رئيسة لاتحاد الطلاب وهي محجبة، خبراً أعطاني أملاً ألا تتعرض ابنتي وقريناتها لما تعرضت له من معاناة أثناء دراستي الجامعية في باريس.

 كأُم لثلاثة أطفال وكطالبة دراسات عليا في طب الأسنان، أتيحت لى الفرصة خلال إقامتي في باريس بالاختلاط بنوعيات مختلفة من البشر والثقافات والمؤسسات، كنت أشعر طوال الوقت أنني بين صنفين من الناس، أشعر أن عامة الفرنسيين من مدرسين وموظفي المكتبات العامة ومؤسسات رعاية الأطفال أكثر تقبلاً لنا نحن المسلمين الممارسين للشعائر كما يطلق علينا -أن ترتدي الحجاب أو تصلي أو تصوم ويعلم الآخرون عنك ذلك- أما الساسة وأساتذة الجامعات بعضهم لا كلهم حتى يكون المرء منصفاً فيدافعون عن علمانية فرنسا، وأن الحجاب يفسد تلك الصورة.

 عشت التجربتين؛ تجربة التعامل في مدارس أبنائي والأماكن العامة بشكل عام، وتجربة الدراسة ومحاولة العمل، كانت التجربتان مختلفتين تماماً، إذا عشت الحياة العامة دون خوض مجال الدراسة أو العمل كنت سأنفي نفياً قاطعاً أن هناك توجهاً ضد الحجاب، وأن ما يقال مجرد ادعاءات لا صحة لها، وإذا كنت قد حصرت بين الجامعة ومكتب استخراج الإقامات كنت كرهت ذلك البلد، وقلت إنه لا مكان لمحجبة به.

 على سبيل المثال لا الحصر في العام الماضي كنت قررت أن أتدرب في أحد المستشفيات الجامعية الباريسية، قسراً اضطررت لخلع الحجاب حتى أتمكن من التعامل المباشر مع المرضى والقيام بمعالجتهم، فالقانون الفرنسي يمنع كل الرموز الدينية، بما فيها غطاء الرأس في أماكن العمل، في اليوم الأول دون حجاب، كان الأمر قاسياً جداً، أن أنزع حجابي أمام باب المشفى، أمام الجميع، أن أظل هكذا طوال فترة العمل، تدور في رأسي كل الأفكار، كل من حولي بلا استثناء يرون الأمر طبيعياً وروتينياً، لست بصدد الدخول هنا في الفتاوى والأحكام الخاصة بهذا الأمر.

في ذلك اليوم أعطتني المشرفة ملفات المرضى لأقوم بالكشف عليهم، كانت الابتسامة تملأ وجهها، في الأسبوع التالي قررت التحايل على الأمر بارتداء بونيه العمليات فقط لأغطي شعري، وحيث إنه كان لا داعي لهذا البونيه فقد كان الأمر مفهوماً جداً، ذهبت كعادتي صباحاً أسألها عن برنامج اليوم، فقالت لي: إن البكالوريوس المصري لا يسمح لي بلمس المرضى هنا في هذا المستشفى دون معادلة، وقالت ساخرة: لسنا في إفريقيا هنا، وإني موجودة فقط للتدريب، كان الأمر مستفزاً، فهؤلاء المرضى هم نفس المرضى الذين كنت أعالجهم منذ عدة أيام فقط دون حجاب. استسلمت للأمر، لأنني كنت قد قاومت سبع سنين كنت أعرف أنه لا أمل في أي عمل طالما أرتدي الحجاب.

بعد فترة من العمل في المستشفى صار الأطباء يعتمدون عليّ بشكل شبه كلي؛ حيث كنت أتواجد يومياً، ورزقت بصديقة طيبة قررنا معاً أن نتحايل على الأمر ونرتدي حجابنا كاملاً بشكل ما، ودعمني طبيب عربي، وتحت ضغط الحاجة لم يتحدث إلينا أحد عن الأمر، وصار أمراً واقعاً.

 في 2012 كنت قد بدأت في إحدى الدراسات العليا الخاصة بطب الأسنان، لم أكن أتحدث الفرنسية وقتها إلا بعض الكلمات القليلة، إلا أنني نجحت في جميع المواد المطلوبة من المرة الأولى إلا مادة واحدة، خضتها 6 مرات، أذكر أنني عندما تحدثت في اليوم الأول في الدراسة إلى المشرفة أنني أحتاج المواد مكتوبة لأستطيع ترجمتها ودراستها بسهولة، قالت لي: ما الذي جاء بكِ إلى هنا؟! اذهبي إلى بلد آخر، في امتحان نهاية العام كنت أسألها عن معنى كلمة بالفرنسية لأفهم السؤال، قالت لي: اكتبي ما تشائين فلن تنجحي أبداً، بكل سذاجة ظننت أنني فهمت كلامها خطأ فقلت لها "ميرسي"، كنت في العام الأول واحدة من اثنتين محجبتين ثم صرت وحدي فيما بعد، انتهى الأمر برسوبي  6 مرات رغم أنني بذلت من الجهد مبلغه، تعاطف معي سكرتير الجامعة، قام بإرسال صورة من ورقة إجابتي ونموذج الإجابة، لم يكن هناك فرق يُذكَر، الفرق الذي يجعلني أرسب 6 مرات، أرسلت للمشرفة الورقتين؛ حيث إن التظلم يقدم لها، قالت إنها تأسف جداً لذلك، وإنها ستنظر في الأمر وسترد عليّ، ولم ترد منذ عامين.

قررت تغيير التخصص، أجبت جيداً في الامتحان لم أنجح، رأتني مشرفة المادة أبكي، كنت أبكي حقيقة بسبب مشكلة أخرى، سألتني عن سبب بكائي، قلت لها: لم أتوقع أبداً أن أرسب، ذهبنا معاً للاطلاع على ورقتي، وكانت الصدمة التي قررت بعدها عدم التسجيل في الجامعة مرة أخرى، وجدت درجة النجاح مشطوباً عليها وتم تبديلها بدرجة أخرى، كانت في موقف لا تحسد عليه حين اضطرت أن تقول: آسفة جداً لا أستطيع إعطاءك الدرجة أنت لست فرانكفونية، لن أستطيع، أرجو أن تتفهمي الأمر، وانتهى الحوار على ذلك.

 في نفس البلد ولكن في مجال آخر.. في الحياة العامة العادية، أذكر يوماً كنت أقف في محطة انتظار الحافلات في شهور حملي الأولى ومعي أولادي، كنت في غاية الإعياء والتعب، رأتني مديرة مركز رعاية الطفل الفرنسية بالحي، كنا قد تعرفنا سابقاً عندما أخبرتني أن ألوان حجابي مبهجة التي أرتديها تعجبها، اتصلت بي في نفس اليوم تقول: كان وجهك شاحباً كالثلج هل أنت بخير؟ أخبرتها أنى حامل وان زوجى يعمل في مدينة فرنسية أخرى يعود إلى البيت مرة كل أسبوعين، لم يمر أسبوع حتى وفرّت لي سيدة ترعاني وتصطحب أولادي إلى المدرسة .

بعد أحداث ١٣ من نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١٥ التي راح ضحيتها حوالي 127 شخصاً نتيجة عدة تفجيرات وإطلاق نار في أماكن مختلفة في العاصمة الفرنسية باريس، كنت أخشى الخروج إلى قلب باريس خوفاً من أعمال الكراهية، حتى إنني لم أذهب إلى أحد الاختبارات الجامعية التي تلت تلك الأحداث، كان لدي موعد طبي خاص بابني مع طبيبة فرنسية طالما تحدثنا معاً عن الحجاب وهل أنا مكرهة عليه أم لا، أخبرتها أنني أريد إلغاء الموعد، أخبرتني بتفهمها للموقف وطمأنتني قائلة: نحن وأنتم نعيش معاً نحن لسنا ساذجين لنرى كل المسلمين قاتلين، نحن نستطيع التفرقة، أنتم جزء من هذا المجتمع.

 تلك الصورة التي رأيتها فيما حدث مع مريم، بداية من اختيار طلاب جامعة السوربون باريس  4 لها وهم يعلمون أنها مسلمة محجبة ورغم ذلك وصلت إلى أن تكون رئيسة لاتحاد طلاب الجامعة، الأمر الذي يدل على أن الطلاب في معظمهم لا يعارضون وجود الحجاب في الجامعة ويتعاملون مع المحجبة كإنسانة كاملة الحقوق ولا تنقص عنهم شيء لا عقلاً ولا فكراً ولا ثقافة، هؤلاء الطلاب الذين سيحكمون بعد عقدين أو ثلاثة ويتحكمون في مفاصل الدولة، هم الذين يدعمون مريم سواء بالبيانات أو على شبكات التواصل الاجتماعي على هاشتاغ (ادعموا مريم)، يقبلون بالآخر أكثر من أولئك السياسيين والبرلمانيين الذين يبذلون قصارى جهدهم لمنع وجود الحجاب، يسنون القوانين بداية من منع الحجاب في المدارس وأماكن العمل في 2004 وانتهاءً حتى بمنعه في أماكن الترفيه كمنع البوركيني في 2016، يحاولون إيصال رسالة بأنكِ إذا أردتِ أن ترتدي الحجاب فليس لكِ مكان في الحياة العامة، ربما هذا هو الذي استفزهم أن مريم لم تشارك فقط في الحياة العامة، بل نجحت أن تصل لرئاسة اتحاد الطلاب، ربما يجدون في ذلك تهديداً لكل ما يفعلونه من أجل الحفاظ على صورة الدولة العلمانية، الدولة التي من شعاراتها الحرية، ولكنها لا تساوي الجميع في تلك الحريات، كما قالت إحدى النائبات: نعم حقها ارتداء الحجاب، ولكن ما يقلقني أنها ستتحدث باسم الطلاب وهذه دعاية للإسلام السياسي، الأمر الذي نفته مريم قائلة: إن حجابي ليس له أي علاقة بالسياسة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
أسماء بركات
طبيبة أسنان مقيمة في ألمانيا
أسماء بركات، أم لثلاثة أطفال، طبيبة أسنان، مدونة ومهتمة بحالة حقوق الإنسان والأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة وصعوبات التعلم، مقيمة في ألمانيا.
تحميل المزيد