يقول الشاعر: "كل ابن أُنثى وإن طالت سلامته **
يوماً على آلة حدباء محمول".
ما أجملهُ من بيت شعر! وما أصدقها من كلمات! لكن نحن نعيشُ هذه الحياة وفق ما يُريده القدر منا، لا كما نريد أن نعيشها نحن. حين مرضت أختي بالسرطان، كان الموت قد أعلن نفسه سيداً على بيتنا. قام بصد الحياة عن العبور لنا، ولو كان الإنسان مخيّراً بين الحياة والموت لكانت للبشر نفس المكانة التي يتمتّع بها الله عزّ وجل، ورغم ذلك يبقى الإنسان محباً للخلود.
إن في الموت لحكمة، أولها قدومك للحياة والعيش بين المتناقضات والمعاناة والقليل من الفرح والراحة، وأوسطه مسيرتك نحو النهاية، وهو قبرٌ يحمل جسدك الذي يسقط دون علم منك. لقد آمنت بكل شيء حولي، ما عدا أني فشلت بالإيمان بالموت، وكنت أراه مجرّد عقاب رباني لا غير. ومن هناك ومع مرض أختي ومعاناتها بدأ "بحثي عن الموت" لا عن "الله"؛ لأن إيماني بالموت كان مرتبطاً ببحثي عن الله خالقي وخالق السماوات والأرض.
بدأ الشك هذا حين كانت أختي، رحمها الله، مريضة بالسرطان، ذاك المرض القاتل الشنيع جداً، حين كنت أراها تتعب، تتعذب، وتصيبها نوبات من الألم. كنت أتمنى لو كان للإنسان سحر يستطيع أن يخفف به ألم الناس، وكنت أتمنى لو كان لي هذا السحر لأخفف عنها ألمها وصراخها. كنت أتمنى أن تكون لي قوّة خارقة؛ لأزيل عنها المرض كلياً، وتعود لي فراشتي الجميلة. حين أصلي لها أقف فوق السجادة، وأسأل نفسي كثيراً: لمن أصلي؟. وبعد لحظات يراودني شعور السّخط على نفسي ويبقى داخلي مشوّشاً. كنت أستيقظ على صراخ أختي وأنظر لها كيف تتألم، لقد كان السرطان يأكل كل جسدها دون أي توقف. لا الأدوية ولا أي شيء من الأشياء يخفف لها ذاك الهيجات من الوجع، وكنت أزداد شكاً كلما رأيتها تناجي الله، ومرة من المرات قلت في غضب: أين هذا الله الذي تناجيه بكل هذا الحب؟.
كان عقلي يجتاحه السؤال تلو الآخر ولا أجد الإجابة ولا أفهم لماذا تزداد نفسي تأزماً. في تلك الفترة كنت ضائعة بين نفسي وبين مرض أختي وألمها الذي يجعلني أزداد حيرة. ويوماً بعد يوم كانت أختي ترتاح من المرض. ومع قدوم شهر رمضان المبارك كان الأمر يزداد تعقيداً، جلستُ بجانب أختي يوماً وأمسكتُ بيديها وكانت تنظر لي كالملاك دون حركة أو كلام، كنا نودّع بعضنا البعض بكلماتٍ صامتة بصخب الفراق وآهاته. وبين الصمت والتحديق رسائل تبثها لنا الأيام والذكريات التي أرهقها السؤال والحيرة. حين يجتاحك البحث عن إجابة لنفسك؛ ليرتاح عقلك عليها وتتنفس نفسك الطبيعة كلها كأنها عطر يبعث روحك دون جسد خالٍ من السؤال الذي أثقله البحث الطويل. كنت أنظر لها وأتمنى لو أحدّثها عن تعبي بدونها، ذاك التعب الذي جعلني أنا أيضاً قريبة من الإلحاد.
ومع تلك المسكة التي تفصلك بين الماضي وضحكاته والحاضر ومآسيه، والمهم أن الواقع حاضر بيننا بقوة شديدة. أحسست في لحظة ما أنها النهاية، وأنه قد حان وقت لأعلم الأشياء التي لا أعلمها. وأنا هكذا في صراع بين هذا وذاك صرخت أختي كثيراً، وهذه المرة وجع جعلها تتقيأ دماً من فمها من الألم. أخذناها إلى المستشفى، وعند الوصول أدخلها طبيبها إلى غرفة الإنعاش.. بعد ساعة ونصف تقريباً جاءنا الطبيب وقال لنا: "ما كنا نخشاه منذ مرضها قد حصل، ابنتكم أكل جسدها السرطان، وربما الوقت قد حان لتستعدوا لأي شيء في القريب العاجل". ما أتعس الكلمات! وما أبشع الحياة! إن الموت فاصل تضع وراءه نقطة فوراً. نحن نحتاج لمعجزة، ولكن هل حان وقت المعجزات أن تتحرك؟ لقد نزل الحديث على قلبي كالصاعقة، وكانت عائلتي في دوامة ولا حول لنا ولا قوة. اختليتُ بنفسي، وركعت وأنا لأول مرة أركع دون سؤال، كنت خالية من نفسي، وكأني في مكان لا وجود فيه لغيري، وكأن الدنيا خلقت لي لوحدي لهذه اللحظة، ورددت وهذه المرة بصوتي الذي سمعه الله لأول مرة: "رباه خذها لديك لترتاح من كل هذا الألم، أنت الذي خلقتها، وأنت أرحم عليها منا". أحسست أن شيئاً في داخلي خرج فوراً من الصدر إلى السماء الواسعة.
يوماً بعد يوم كانت أختي تذوب كالشمعة، فراشتي الجميلة التي يذكرني بها الأذان في المساجد والعصافير حين تغرد تودعنا إلى حياة أخرى. فقدت الذاكرة وفقدت الصوت والنظر، وكنا نتداول للسهر على راحتها طوال الليل، كان رمضان أخير يجمعنا، نودع معه ذكرياتنا التي جمعتنا تحت قلب واحد. بعد أن تصلب جسدها وأصبح ضعيفاً جداً، وكنت كلما نمت بجانبها أقرأ لها وأغني لها، وكانت تنظر لي تكاد تبتسم لي، ولكن لا تستطيع. أحدثها طوال الليل إلى أن أنام نومها.
صباح يوم الأربعاء كنت نائمة واستيقظت على صوت أختي وهي ترتجف، وكانت تقول لي إنها ستموت. كنت كالمجنونة الهادئة، ما أدري ماذا أفعل، أو ما الذي سأفعل، وذهبنا كلنا إلى غرفتها، وكان أبي معها وأمي، ولأول مرة أواجه الموت أمامي، كان الله يقول لي: إن الرسالة والجواب الذي تبحثين عنه أمام عينيك الآن. ربما حان الوقت أن يرتاح عقلي من السؤال؛ إذ بالإجابة أمامي، وأنا ما زلت لا أدري ما هي ردة فعلي. بعد لحظات وبينما كانت أختي تُنازع، كانت الرسالة التي أتلقاها قاسية وإجابتها أصعب أن أتقبلها. كان أبي يخبرها أن تؤمن بقضاء الله، وأن تنطق الشهادتين، وبعد لحظة ما انتهى كل شيء، لا أدري كيف خرجت الروح. بعد الموت بدقيقة آمنت بجواب أبحث عنه، وكانت أختي سبب إيماني بالموت والله معاً، وها أنا اليوم لا أنسى لا أختي ولا الإجابة، وربما صدمة قلبي جعلتني أبحث عن موت آخر لإيمان بشيء كنت سألته عليه وأنا في حاجة لإجابة.
بعد الموت بدقيقة كان كل شيء يزور قلبي وعقلي إلى أن أقف فوق سجادة وأقول: "إن الله حي لا يموت" في داخل كل شخص فينا يعيش، ونحن نبحث عنه، وهو الذي يردنا إليه بالطريقة التي تجعلنا لا نفكر مرة أخرى.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.