لا يخفى علينا أن المنظومات الديكتاتورية في المنطقة العربية استمرت بدعم لوجيستي، أيديولوجي، وتعاون عسكري، تلاها كثيراً وأد أي حركات ربما تؤول إلى تهديد وجودي للنظام الحاكم ودولة الحزب الإله.
هنا سنتكلم عن دور روسيا الاتحادية التي لا تزال تعمل على تحقيق حلمها الإمبراطوري بتوسيع نفوذها ليس بحرب باردة أخرجتها عام 1991 من دائرة الثنائية القطبية والتنافس على السيادة العالمية مع الولايات المتحدة الأميركية، إنما بمساندتها للأنظمة الديكتاتورية ووقوفها ضد حق الشعوب المطالِبة بحريتها، هذا الأمر الذي أضعف من موقفها لدى الرأي العام العربي الذي خرج بحماس إلى الشارع مأخوذاً بالثورة وتحقيق الديمقراطية، لكن ذلك لا يعتبر العائق الأكبر أمام المصالح الروسية، بل الخوف من تفاقم أوضاعها الداخلية نتيجة تدني مستوى المعيشة وانتشار الفقر داخل المجتمع الروسي، ويعتبر ذلك أحد الأسباب التي دفعت بها إلى قيادة حملة سباق التسلح والترويج لمنتوجاتها العسكرية في منطقة تعيش حالة مؤرِّقة من الفوضى والخوف اللذين خلفهما الشتاء الدموي في عديد من الدول العربية (2010-2011) وإلى اليوم.
والحديث عن المنطقة العربية يفتح المجال للبحث فيما يمكن أن تفعله روسيا من أجل الوصول إلى أهدافها، ويشمل ذلك بناء تحالفات مع الاقتصادات الصاعدة، أو التنازل عن العداءات التاريخية، وتبني نهج مغاير يبعث بتوازنات جديدة، وذلك ما يمكن إيجازه في النقاط التالية:
أولاً: بوتين – ترمب عداء أم تحالف شيطاني؟
استغرب المجتمع الدولي من دعم بوتين لترمب وتهنئته بفوزه بالانتخابات الرئاسية، وفُتح المجال في ذلك الحين للحديث عن تحالف أميركي روسي يضع حداً للخلافات التاريخية، ويضع آفاقاً لعلاقات وشراكات تبعث على الاستقرار، خاصة الحاصل في سوريا، في ظل التهديد المتزايد لداعش، لكن الهجوم الكيميائي الذي قام به بشار الأسد على ريف إدلب، والذي أودى بحياة الكثيرين أرجع العداء الروسي الأميركي من جديد، ووجهت الاتهامات إلى روسيا الداعمة لانتهاكات حقوق الإنسان، فما قام به نظام الأسد يعتبر إرهاباً حقيقياً، هذه الإطلالة على أحداث سابقة تضعنا أمام خيارين:
- أنّها أحداث مخطط لها من قبل الدولتين ونظام حزب البعث، أي مجرد لعبة بيدهما من أجل تفتيت المنطقة، وعلى هذا تقوم الحرب في سوريا وتقوم على أثرها صراعات جديدة تسمح لإسرائيل بالتغلغل أكثر في الأراضي العربية، فالجيش السوري قد تم إنهاكه ولم يعد بقوة وجاهزية مادية ومعنوية تسمح له بمجابهة إسرائيل، وبالتالي التقليل من نفقاتها العسكرية التي تؤثر سلباً على اقتصادها، كما أن ما جرى دفع بحركة "حماس" إلى مغادرة الأراضي السورية؛ لأنها استأثرت بالنأي عن نفسها في الحرب المشتعلة، وبهذا نجحت إسرائيل بحلف ثلاثي شيطاني في ضرب بنية المقاومة، وإشغال الخطر الوجودي من الشمال الشرقي ولو جزئياً.
- أنّ الحرب المدمرة في سوريا كشفت اختلاف المصالح بين أميركا وروسيا، إذ جعلت من هذه الأخيرة أكبر نظام ديكتاتوري يمتلك أسلحة مدمرة تهدد أمن الشعوب العربية، من خلال دعمها لاستمرار الحرب وتغاضيها عن الاستعمال غير المقبول للأسلحة "المحرمة دولياً"، في حين أن الولايات المتحدة ظهرت بثوب المحرر والمخلّص الذي لا يزال على وعوده بنشر الديمقراطية ومساندة الشعوب في مطالبها بالحرية والعدالة الاجتماعية، بدعم الثورة تارة وخلق عداوات بين المعارضين تارة أخرى، وتعزيز الوجود الإسرائيلي المستفيد الأول والأخير مما يجري.
ثانياً: روسيا وزعامة سباق التسلح في المنطقة
هناك توجه عربي – سعودي، مصري وجزائري، نحو عقد صفقات أسلحة بمليارات الدولارات مع روسيا، الأمر الذي يفتح الباب لعدة تساؤلات: هل فقدت روسيا سمعتها في السنوات الأخيرة؟
استغلت روسيا جنون العظمة، الذي تعاني منه عديد من الأنظمة العربية التي تسعى للسيطرة على الزعامة ولعب دور مواز للقوى الكبرى في العالم، الأمر الذي يبرر توجهها لاقتناء السلاح الروسي وانفاق بلايين الدولارات على القطاع العسكري على حساب تنمية العديد من القطاعات، فالهاجس الأمني لم يشغل الجار "الإسرائيلي" فقط، بل شمل الدول التي مُنيت لتوها بخسائر كبيرة بفعل الربيع العربي إلى جانب الإرهاب -كما تدَّعي- التحدي الأول الذي رأت ضرورة مواجهته بأي وسيلة كانت.
كلّ هذا وذاك أكد فرضية "أنّ الإرهاب صناعة غربية"، فهو الفزاعة التي خدمت اقتصاديات الدول الكبرى، كما جعل المنطقة العربية بمثابة الأرض الخصبة لحقل التجارب القذرة، بالتالي كانت هذه فرصة روسيا الذهبية التي انتظرتها لسنوات للتوغل وسط المنطقة العربية بشكل مباشر، وهذا ما وفَّره الأسد بقصد أو بغير قصد، وها هي روسيا تعود إلى واجهة المشهد الدولي في صورة الملاك الوديع والأب الحنون، بغض النظر عن تداعيات أعمالها العسكرية على الرأي العام العربي وحتى لو فقدت سمعتها على مستوى الرأي العام، فإن صناع القرار في الكرملين يعولون كثيراً على المنظومة الإعلامية المضادة "الضخمة" في تحسين صورة أدائها أمام العالم.
روسيا اليوم تلعب على المكشوف؛ إذ تدعم أي نظام يخدم مصالحها ولا تُعير اهتماماً إن كان مرفوضاً شعبياً أو نظاماً يتسم بشيء من الديمقراطية (مع العلم بالطبع أن منطقتنا تخلو من الديمقراطيات الحقيقية)، ولا شيء سيمنع تمددها ففي العلاقات الدولية البقاء دائماً للأقوى، وكما قال نيكولا مكيافيلي إن الغاية تبرر الوسيلة، وبما أنّ أنظمتنا العربية ديكتاتورية الجذور فإنّ التعامل معها بالمثل يشكل صفقة ناجحة في ظل موجة "التطرف والإرهاب" السائدة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.