السّقوط في الهاوية ليس له لحظة بداية ولا لحظة خروج. أنت فقط تجد نفسك فيها وربما لو حاولت تدبر الأمر لن تستطيع حتى استيعاب متى وصلت هنا أو متى بدأ كل هذا الهراء.
والخروج منها كذلك غير مرتبط بلحظة ما أو حدث ما، أنت فقط تجد نفسك وقد خرجت منها، بين السقوط والخروج فتنٌ كقطع الليل المُظلم.
في البداية -البداية القديمة جداً- كنت صغيرة نسبياً في السن لأدرك ما هو الإسلام الأصولي أو السلفي الوهابي -15 سنة- كل ما كنت أعرفه أن هؤلاء (فُلان وعلان وترتان) علماء أجلاء، لم أكُن أسأل ما سبب الجلالة، لكنهم أجلاء على كل.
كنت أقفز قفزات إيمانية واسعة، مِن ارتداء غطاء رأس لارتداء الخمار، ومن الخمار لارتداء إسدال ومن الإسدال للتفكير في النقاب، ومن التفكير في النقاب للخروج عن الملة (اللاأدرية)! وثبات ضخمة ومرعبة، ولا أدري فعلاً هل كانت اللاأدرية هي الهاوية أم أنّني كنت في الهاوية من قبل ذلك دون أن أدري؟ ربما كنت فيها منذ اعتبرت البعض أجلاء دون أن أتدبر سبب الجلالة.
أعتقد أن بذرة اللاأدرية نفسها زُرعت من اثني عشر عاماً، في السنة الأولى في كلية آداب، قسم اللغة الإنكليزية، جامعة المنصورة. كنت أحب جداً الجلوس في أول بنش لأرى الشمس تدخل مدرج 11 بتدحرج حتة بحتة. كانت هناك دكتورة تُدرس المسرح، تجلس في نفس المكان الذي تسطع فيه الشمس، تشرح لنا، في محاضرة الثامنة صباحاً، مسرح شكسبير وتتحدث باستفاضة عن فلسفته، فلسفته تلك عذبتني سنوات وسنوات.
المشكلة أن الجو العام كان محفزاً جداً لأن يُزرع فيَّ أيّ شيء في تلك المرحلة العمرية. فتاة ريفيّة صغيرة السن قليلة التجارب متدينة التدين الأبله، تصحو باكراً لتسمع بقية حكاية "ماكبث" لويليام شكسبير من دكتورة جامعية تقضي وقتاً لا بأس به من المحاضرة في التأكيد أن الإنسان قيمته في مبادئه وعمله!
كلمات وإن بدت بسيطة جداً، لكن لو لقنتها لطالب صغير في السن ينظر للعالم نظرة مثالية ساذجة قد تغير حياته للأبد. لم أنسَ أبداً كلام الدكتورة عن فلسفة شكسبير التي قامت عليها معظم مسرحياته: "مبدأ الشك في كل معرفة إنسانية".
الأمور ليست بالضرورة كما يبدو عليها، وربما هي المطلق الوحيد، التأرجح القاتل بين آلاف الاحتمالات دون الوقوف في النهاية على قاعدة واحدة مُطلقة يمكن الانطلاق منها وبناء أي شيء!
وبالرغم من أنني في تلك الفترة كنت أرتدي إسدالاً فضفاضاً واسعاً لا يكشف ولا يصف كمن يحتمي بلحاف، فإن تلك الجملة البسيطة اخترقت كل شيء، واستقرت في قلبي: "مبدأ الشك في كل معرفة إنسانية".
الإحساس بالعجز المطلق عن الجزم بسوء أو حسن أي أمر، العجز عن الوقوف على صدق أو كذب أي شخص، الاتفاق على جدوى أو لا جدوى أي شيء، كل هذا يقذف بالمرء في دوامات ضخمة من العجز عن التصرف في أي اتجاه لأن الأمور دائماً حمّالة أوجه.
كنت على مشارف العشرين ولديّ رغبة عاتية في ارتداء النقاب. لو أخبرني أحدهم أنني في غضون شهور لن أكون مسلمة أساساً لقلت محض هراء. لكنه حدث، متى؟ وكيف؟ لا أدري. أنت فقط تجد نفسك في الهاوية، متى وصلت لها يظل أمراً عصياً على الفهم. كان عمري 22 سنة، عندما أدركت أن اسم الحالة التي وصلت لها هي "اللاأدرية " (agnosticism). أنت تدري شيئاً واحداً فقط: هو أنك لا تدري. هل هناك إله؟ وإن كان هناك واحد لماذا يحتجب في علياه؟ ما نوع الفائدة العائدة عليه من خلقنا في عالم يكرهنا ونكرهه لهذا الحد؟ الإجابة: لا أدري.
كنت لا أدري أي شيء غير أن الأمور لم تعد كما كانت وأنني لم أعُد أرى أي جلالة أو أي أجلاء. سنُّ الثانية والعشرين كانت مروعة بحق، خاصة بعد الثورة. كل شيء كان يسقط بسرعة الصاروخ: الأفكار والمبادئ والرموز والأشخاص وهلم جرّا.
وأنا! مَن أنا لأقف كالوتد في وجه طوفان يكنس كل شيء؟ سقطت كما سقط الجميع في هاوية سحيقة اسمها اللاأدرية، وفيها كان هناك سؤال واحد فقط ينقر رأسي، وكلما أجبت نفسي عنه ازدادت الهاوية اتساعاً. هذا السؤال هو: لماذا يا من خلقت العالم تفضل التراجيديا في تدوين المصير؟ ولا أرى إجابة، فتبلعني الهاوية أكثر فأكثر.
كان الشك التام في كل شيء متمكناً تماماً منّي.. صار وجه المبادئ والمعتقدات شاحباً وباهتاً. تدريجياً، تحولت الحياة لكابوس، انعدمت الحركة في أي اتجاه؛ لأنه كما قلت: كل الأمور "بنت كلب" حمّالة أوجه. لكن في النهاية وبشكل ساخر تماماً صرتُ أشك في شكّي نفسه! فالشك لا يمكن أن يكون مبدأ، هو مجرد حالة عقلية عرضية، أو اضطرابات وجدانية، لكن تحوله لموقف ثابت مستحيل. "الشك في الشك" كانت تلك هي المقاومة الوحيدة والأخيرة الممكنة في وجه الشك العدمي القاتل.
فمن أقر للعقل بحق الشك فقد أقر له في نفس الوقت بحق الهداية والإرشاد. رأيت أن الكون بكل موجوداته لا يمكن أن يكون من عدم وإلى عدم. وإذا كان العدم في بعض حالاته ينفجر بالوجود الضخم هذا فهو لم يكن عدماً من الأساس. هناك مَن يقف خلف كل هذا الوجود، هناك كائن ما واجب الوجود خلف كل هذا، هناك كائن واجب الوجود خلف كل تلك الكائنات الحادثة، هناك كائن ما موجود بذاته ووجوده هو ما أوجد باقي الكائنات. لا يمكن أن يؤدي اللاوجود إلى وجود.
كانت تلك هي البداية الثانية، كانت هي الأخرى مجرد جملة لكنها استقرت في قلبي: "إننا لم نأتِ من عدم ولن نذهب إلى عدم، وإن هناك سبباً ما -علة ما- وراء كل الموجودات". كانت تلك الفكرة بالنسبة لي أقل وطأة وأكثر منطقية مِن أن الوجود أتى من العدم.
نعم، سوف أتمسك بهذه الفكرة، فهي منطقية وبسيطة. كان للفيلسوف الإسكندري أفلوطين فلسفة يُطلق عليها: "فلسفة الفيض" تقول إن هناك كائناً أولَ تفيض منه كل الكائنات. هذه تؤيد فكرتي وتشد من أزري كثيراً: الوجود أتى من موجود، أكثر منطقية من الوجود أتى من العدم.
لكن وجود سبب ما وراء العالم أو كائن أول أفاض علينا بكل شيء لم يُسهل الأمور كثيراً كما كنت أعتقد، فإذا سلمت بوجود كائن أول وجدتني أقف أمام إشكالية وجدانية ألا وهي "المظلومية"، لماذا فعل بنا كل هذا؟ وما الهدف من كُل هذا الخلق؟ وأين هو من كل الكوارث والمصائب التي تحدث في العالم كل يوم؟ مرة ثانية، لماذا يا مَن خلقت العالم تُفضل التراجيديا في تدوين المصير؟!
مع ذلك، سريعاً ما تراجعت فكرة "المظلومية" للخلف أمام أفكار أخرى، الشك مرة أخرى؛ هل نحن مظلومون حقاً أم ظالمون؟! قدر يعبث بنا أم نحن من نخلق أقدارنا خلقاً؟! اعتقدت أن الأولى هنا ألا أعترض على أحكامه أو تجلياته في الكون حتى أنتهي من أي إله هو، بعدها ربما يمكن عتابه. لكن الأمور صارت أعقد وأعقد، أي إله هو؟: الإله الواحد الإسلامي! أم الثالوث المسيحي، أم اليهودي أم البوذي؟؟ أم… أم… إلى ما لا نهاية.
على الأرض عدد ضخم من الآلهة والمعتقدات، أيهم صواب؟ وإذا أردت أن أحكم بصحة معتقد من كل هؤلاء؛ ألا يجب أن تكون أدلة صحته ليست منه؟ "مين يشهد للعروسة؟"! ألا يجب أن تؤدي القرائن إليه لا أن تكون القرائن من داخله؟! ما الزيف؟ وما الحقيقة؟
عدت لنقطة الصفر، هناك كائن أول هو السبب في وجود كل الموجودات لكني عاجزة تماماً عن تحديد ماهيته أو فهم أفعاله، وصلت بعد ذلك لفكرة أن هذا الكائن لا بد أنه أعطى ما يدل عليه وسط هذا البحر من الآلهة والأديان والمعتقدات، أليس كذلك؟
هذا الكائن الأول لا بد مُحكم التمام والكمال خالٍ من كل نقص، وأنه لا بد حين خلق الإنسان ترك لنا رسالة أو علامة أو طريقاً نصل به إليه. هنا بدت فكرة الرسل والأنبياء منطقية، إنّه لا بد سيعرفنا بنفسه عن طريق أشخاص اختارهم للتواصل معه ثم ليدلونا عليه، ولماذا لا يكون له وجود مادي ويخبرنا هو بنفسه عن نفسه؟ آه، كل الطرق تعود بي للبداية كمن يدور في حلقة مفرغة.
من جديد، هناك كائن أول لا يشوبه نقص هو سبب وجود كل الموجودات، ثم ماذا؟ رأيت أن هذا الكائن يجب ألا يكون له وجود مادي؛ لأنه لو كان له هيئة مادية فسيكون هنا قائماً بصورته المادية، فالصورة المادية هنا صارت أحد مكوناته، مما يجعل هذا سبباً ضمن عدة أسباب هي ما تكوّن هيئته، بالتالي هو لا يكون قائماً بذاته، بل بالأسباب المجتمعة التي تكونه، فلا يصير بذلك هو الكائن الأول قبل كل الموجودات؛ لأن هناك أسباباً تؤدي إلى ما هو عليه وهو قائم بموجبها، فهو بذلك حادث وليس المحدث الأول.
الأصح، ألا يكون لهذا الكائن أي صورة أو جسد أو مادة يتصور فيها، بل صار احتجابه واجباً وحتمياً لتمام كماله. وأن فكرة تجليه في هيئة ما للخلق -غير أنها تُناقض امتحان الإيمان به- هي أيضاً تناقض مبدأ أنه كامل خالٍ من كل نقص.
صارت القاعدة الآن قاعدتين منطقيتين، هناك كائن أول والحجة كذا وكذا، وهذا الكائن لا بد محتجب ولا يتشكل في مادة بحجة كذا وكذا. كانت القاعدتان بالنسبة لي -كغريق- لوح خشب عريض في بحر لُجيّ تمسكت بهما وبالمنطق الذي بنيت عليه.
رأيت أيضاً، أن هذا الكائن لا يُمكن أن يكون متحولاً أو متشكلاً على أي هيئة، ولو أن تلك الأشكال المتغيرة له هي لنفس الذات؛ لأن مُجرد التحول أو التغير من هيئة لهيئة يقتضي أنه يحتاج التغير لغرض ما، فإذا كان كامل العظمة والكمال لا يصح له الاحتياج تماماً كما لا يصح له التبدي في هيئة مادية.
كانت تلك القاعدة الثالثة، هو ثابت لا يتغير ولا يتحول، وقبلها هو لا يتبدى في هيئة مادية، وقبلها، هناك كائن أول قائم بذاته بحجة كذا وكذا. ثلاث قواعد، بدت لي منطقية ومتينة وأستطيع البناء عليها.
أعتقد أيضاً أن هذا الكائن لا يمكن أن يكون هناك شرح لشكله أو طبيعة هيئته؛ لأنه لو كان هناك تعريف له فإن ذاك التعريف يدل على مكوناته، وإذا كانت هناك أسباب -مكونات تكوّنه- فهو بالتالي مكون من بعض أجزاء، ولا يمكن أن يكون الكائن الأول مكوناً من كذا وكذا؛ لأن تلك المكونات تكون سبب حدوثه/قوامه فلا يكون بذلك كائناً أولَ بل هو حادث وليس المُحدث.
حتى الآن وصلت إلى أن: هناك سبب/ كائن أول -وهذا الكائن لا ينبغي له التشكُّل في مادة- وهو ثابت لا يتغير ولا يتحول، ولا ينبغي أن يكون له تعريف يُساعدنا على تخيُّل صورته أو شكله؛ لأنه ليس مكوناً من أجزاء؛ بل هو وحدة واحدة، هو واحد.
هنا سقط عنّي أحد أثقل مشاعر المظلومية، عندما تساءلت فيما سبق لماذا لا نراه أو يظهر لنا عياناً؟ في تلك اللحظة صارت القاعدة الأولى أربع قواعد منطقية. حينها، شعرت بأنني ابتعدت عن نقطة الصفر ولو شيئاً يسيراً.
ومع ذلك، بقي عدد من الأسئلة: لماذا خَلقنا؟ وإن كان خلقنا للعبادة، ألم أنفِ عنه سابقاً مسألة الاحتياج لأي أمر خارج عنه؛ لأنه بذلك لا يكون كاملاً! أليس هو عظيماً بجوهره لا يحتاج لأن يتعبده أو يعظمه أحد؟ رأيت أنه لو كان هذا الكائن الأول قد خلق بشراً فقد خلقهم بحكم جوهره كأول قوي يستطيع أن يخلق. ولو كان خلقهم؛ لأنه يحتاج عبادتهم كنوع من الكرامة له ما كان بذلك الكائن الأول؛ لأنه بمُجرد أن احتاج شيئاً خارجاً عنه فهو بذلك يقوم كنتيجة لهذا الشيء ولا يكون قائماً بذاته.
لذلك، فخلقه الإنسان كان دليلاً على أنه خالق قائم بذاته، هذه تجليات جوهره. ولا يمكن أن يكون هذا الخلق بغرض اكتساب كرامة من وراء عبادتهم له؛ لأن مجرد اكتساب الكرامة ينفي عنه كماله بذاته وبجوهره. فهو عندما خلق لم يكن يحتاج من يتعبده، فلو كان محتاجاً ما استطاع أن يخلق أساساً. كانت تلك القاعدة الخامسة، أن هناك كائناً أوّل والحجة كذا… لا يتشكل في أي هيئة والحجة كذا.. ثابتاً لا يتغير ولا يتحول والحجة كذا.. لا تعريف له والحجة كذا… وجب عليه خلقنا بحكم جوهره ولم يخلقنا احتياجاً منه لنا والحجة كذا..
الآن، بحكم التسلسل المنطقي للأفكار، لا بد أن هذا الكائن أرسل من يعرفنا به: ككائن أول واحد لا مثيل له ولا تعريف ولا هيئة ملموسة، وقد خلقنا لا عن احتياج لنا بل بحكم جوهره كخالق. لا بد أن هناك رسولاً ما وديناً ما يدلان عليه مستخدمين تلك القواعد الخمس، ما هو بعد ذلك تحصيل حاصل.
رأيت أنّه طالما هو بجوهره كامل فإنه بالتالي لا يكذب، وطالما وعد فوعده حق لا ريب فيه، فإذا كان أرسل كتاباً ما يشرح فيه ما حدث وما سيحدث ويعد بالأفضل فالأمر كما قال؛ لأنه لو كان محتاجاً للكذب فهو لا يقوم بذاته ولا يكون هو الخالق/الكائن الأول. تلك دائرة مغلقة منطقية لا شك فيها.
كما قلت، الخروج من الهاوية كذلك غير مرتبط بلحظة ما أو حدث ما. أنا لم أستيقظ يوماً فوجدت نفسي مرة ثانية على ملة الإسلام. من يوم أدركت أنني لاأدرية حتى لاحظت أنني أذكر الله من وقت لآخر كان قد مر أربع سنوات، من سن 22 وحتى سن 26، أربع سنوات في تكوين خمس قواعد.
الآن، وأنا على مشارف الثلاثين أنظر للوراء كثيراً وأفكر في الأربع سنوات المظلمة، سنوات اللاأدرية العجاف، سنوات مليئة بالفخاخ النفسية التي يقذف بنا الشك فيها، حالة اللارجاء، اللاأمل لأنني لا أدري، وكل هذا الجمر.
الشاهد.. لا بد أن أختم سردي هنا، على أمل ألا أندم أنني حكيت هذه القصة يوماً ما، وعلى أمل أن يتقبل المشرف عليَّ في العمل المقال كما هو دون الحاجة لقص أو تعديل أو تأنيب على التأخير في التسليم. وعلى أمل ألا أكون أثقلت أو أخطأت في تقديري لأي من الأمور الواردة؛ لأنه كما نعلم، الأمور حمّالة أوجه. أهذا شك آخر؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.