خرجتُ من المحل العربي حانقةً ومحمرَّة الوجه، وددت حينها لو عبَّرت عن غضبي، لكني لم أفعل أدباً وخجلاً. يومها، أخبرت صاحب المحل، وبكل حسن نية، بأنه نسي قبل أسبوع أن يضع لي علبة النوتيلا مع مشترياتي رغم أنني حاسبت عليها كما يظهر في الإيصال! قال لي: "أنا آسف؛ بالتأكيد أنني وضعتها في الكيس!".
استغربت رد فعله وتكذيبه لي رغم أنني زبونة في المحل! وحينها، كدت أبكي خجلاً؛ لأنني سألت عن علبة شوكولا لا يزيد ثمنها على 4 دولارات لا تعنيني أصلاً، وبَدَوْتُ له كالسارقة أو الكاذبة رغم أنني لم أكن أنوي أخذ علبة أخرى أصلاً؛ لأنني وببساطة انتبهت إلى أن كل علب النوتيلا على الرف منتهية الصلاحية.
لم أخبره بهذا حتى، وخرجت إلى المحل الأميركي بجانبه أريد شراء العصير بسرعة؛ حتى أستطيع أن ألحق بموعد خروج ابنتي من مدرستها.
تناولت العصير وأسرعت إلى المحاسب في الأمام وكان أمامي رجل أميركي يبدو في الأربعين من عمره، أخرجت هاتفي ونظرت إلى الساعة وأعدتها سريعاً إلى حقيبتي ولم أُظهر أي ملامح أو إشعارات بالاستعجال، ولكن الرجل سريعاً ما أشار إليَّ بالتقدم وقال: "يمكنكِ أخذ دوري…!"، شكرته ورفضت عرضه، وقلت له إن معي المزيد من الوقت ويمكنه الإنهاء قبلي، لكنه جرَّ عربته وقال لي: "تفضلي…!".
شكرته وسارعت في المحاسَبة وخرجت وأنا أقول لنفسي: "ليس الأمر بهذا السوء". في المدرسة -وهي رياض أطفال تابع للكنيسة الأرثوذكسية- كانت المُعلمة تنتظر بابتسامتها الساحرة، وما زالت تلعب مع الأطفال رغم انتهاء وقت العمل! مُعلمة مميَّزة في مدرسة مميَّزة وجدت فيها ضالتي بعد عناء البحث عن مكان يقدم كل ما أرغب لابنتي، علماً أنهم لا يدرّسون الدين للأطفال!
قد تغوص معي في مذكراتي اليومية وتغضب من ذلك البائع العربي وتتعاطف معي، وقد تشعر بالإحباط مثلاً؛ لأنه عربي أو مسلم حتى!
في الوقت نفسه، قد تشعر بالإعجاب والاطمئنان تجاه تصرّف ذاك الأميركي وتلك المعلمة في الكنيسة وتتلألأ عيناك أمام هذه المشاهد النبيلة!
ولو اكتفيتُ بالتوقف هناك ورسمت خطاً ينهي قصتي، لنعتني البعض بالعنصرية أو المتسرعة وحتى الجاهلة، ويصح هذا القول لو أن قلمي تجرّأ وفعل هذا كما يجرؤ الإعلام العربي والغربي مجتمعَين على إسقاط الضوء على قصص بعينها توجِّه المُتلقي نحو ما يراد له دون أدنى مصداقية أو تجرُّد!
والحقيقة تقول إن العرب ليسوا كذلك، وكان ذاك مجرد موقف يومي بسيط يعبر عن شخص بعينه ولا ينعكس على المجموع إطلاقاً، وحتى ذاك النبيل الأميركي يقابله آخر رفض أن يعطيني حجماً أكبر لفستان ابنتي كبائع في المحل وقال لي إنه "لا وقت لديَّ وخذي هذا وحسب"، بأسلوب تهكمي سيئ رغم أن لديه الحجم الآخر! ولم أستطع تفسير موقفه حينذاك؛ لأنني ببساطة لا أستطيع حتى وصفه بالعنصري، فقد يكون هذا أسلوبه وحسب!
ومجدداً، هذه ليست أميركا، فالتعميم صفة الجهلة، والمواقف تتكرر في كل مكان وزمان، ويصعب أن نصف الشعب الأميركي بالعنصري بينما نحن العرب ننقّط عنصرية بين بعضنا في الوطن الواحد! أليس كذلك؟
ولا أُخفي أمراً أنني كنت في ذلك اليوم بالذات متوترة بعض الشيء؛ لسماعي عدة ردود فعل متعصّبة تجاه العرب والمسلمين بعد فوز ترامب. وحقيقةً، لم أكن كذلك حتى بعد فوزه بالرئاسة إلى حين تكررت هذه الحوادث حتى محلياً هنا في كولوبوس-أوهايو حيث أعيش!
كل المشاهدات والتعاملات اليومية تطفئ ذلك التوتر، والحمد لله لم أواجه شخصياً أي مشكلات، بالعكس فإن الحياة اليومية تسير بكل هدوء وأمان إلى حين هذا الصباح، الذي باغتني فيه الأصدقاء برسائلهم الفيسبوكية التي تسأل ما إذا كنت بأمان أم لا؟ ما الخطْب؟! ولماذا يجب أن أوسم صفحتي الشخصية بهذه العلامة، التي ابتدعها الفيسبوك، في لحظاتٍ للتأكد من أنني بخير!
مطمئنة على زوجي الذي وسم صفحته بوسم الأمان وهو خارج من المطبخ يحمل قهوة الصباح.. كنت سأتوتر مجدداً لو لم يفعل هذا! وأما رسائل الأصدقاء الفيسبوكيين، فما زالت تنعم بدفء المكان ولم أفتحها؛ خوفاً عليها من برودة المشاعر!
ما سبب كل هذا الهراء الصباحي…؟ أسرعت أقرأ الأخبار على عدة مواقع وصفحات وشهقت بصوت صاح في الجهاز: "أحمق"! هو في ذمة الله الآن، لكن ماذا عساي أن أصف هذا التصرف الأهوج من شاب مسلم لم يزدنا تصرُّفه سوى سطر جديد في كتاب الإرهاب باسم الدين، وإن لم تُعرف الأسباب الحقيقية بعد لهذا التصرف الذي أودى بحياته وأصاب 10 آخرين في الحرم الجامعي، إلا أن كونه مسلماً فقط يجعله في خانة ضيقة من التبرير!
حوادث القتل هنا كثيرة، خصوصاً في الأحياء البائسة التي لا تلقى بالاً حكومياً، فالإرهاب الفردي غير المنظَّم موجود أينما كان، فضلاً عن أشكال مُنظَّمةٍ أخرى على مستوى الولايات ككل، ففي أميركا وحدها، هناك ما يزيد على 60 جماعة تُصنّف كإرهابية ما بين منظمات وميليشيات متطرفة ومختلفة التوجهات!
في العادة، فإن مثل هذه المنظمات نتاج للمعارضة والتطرف في أغلبها، ففيها السبيل للتعبير عن توجهات ورغبات مؤسسيها وأعضائها الذين ارتأوا العنف سبيلاً لتحقيق رؤاهم، وليس الدين هو المجال الوحيد للتطرف، فالبيئة والحفاظ عليها وحماية الحيوان مثلاً صنعت أشخاصاً سِمَتُهم الإرهاب والتطرف!
وفي حين ارتبطت التفجيرات الإرهابية بالإسلام والمسلمين فترة طويلة، فإن أميركا وحدها كابدت 15 هجوماً إرهابياً في الثمانينيات من القرن الماضي، ارتكبتها منظمة إرهابية يهودية واحدة.
بينما -ورفضاًَ لقانون السماح بالإجهاض مثلاً- تم تفجير دورة الألعاب الأولمبية في أتلانتا عام 1996؛ تعبيراً عن السخط المناهض للقانون، والتقويم الأميركي مليء بمثل هذه الحوادث!
أما الجانب المتعلق باسم الدين الإسلامي، فليس أكثر إشراقاً؛ فالتطرف موجود في كل الملل والديانات التي هي نفسها في أصلها وحقيقتها تناهض الإرهاب؛ بل وتحرِّمه بكل أشكاله.
وكلمة "تطرف" أمعنت في وصف هؤلاء ممن حادوا عن الصواب، لكنهم ما زالوا في دائرة مذهبية أو طائفية تميزهم عن غيرهم وتجعلهم مادة إعلامية دسمة تستطيع أن تلون المشهد كما يرتأي لها الرأس المدبر لهذا الإعلام بكل أنواعه!
الإرهاب ليس بجديد على العالم؛ بل هو سلسلة ممتدة منذ القدم طالت كل العالم بلا استثناء، فالجماعات الإرهابية غير الإسلامية مثلاً تنشط في عدة دول بالعالم كإسبانيا وفرنسا وإيرلندا والفلبين، وحتى كوكب المثاليات "اليابان" ناله من الإرهاب نصيب، وللإرهاب فنون فاقت التفجيرات والاغتيالات!
وفي هذا السياق بالتحديد، تبرز منظمة "كاهانا تشاي" الصهيونية التي تأسست عام 1971 على قاعدة من الكراهية والعنصرية، لدرجة حَدَتْ بأميركا وكندا والاتحاد الأوروبي جميعاً لوضعها على لائحة الإرهاب، بعد أن أصبحت من أشهر المنظمات الإرهابية في العالم!
وبغض النظر، إذا كنا نتفق مع تصنيف هذه الجماعات بأنها إرهابية متطرفة، أم ثورية شرعية كالقوات المسلحة الثورية في كولومبيا، أو منظمة النضال الثوري باليونان، فإن مجرد إيذاء المدنيين في غير قتال هو إرهاب لا مبرر له حتى في طريق الثورات!
والمثير للسخرية هنا، أن مصطلح "الحرب على الإرهاب" الذي خرجت به الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول ما هو إلا إرهاب جديد تحت اسم شرعي أفرز جماعات إرهابية جديدة، كأننا في لعبة على جهاز الحاسوب، فـ"القتل الغاشم للأبرياء المدنيين إرهاب وليس حرباً على الإرهاب"، كما يصفها ناعوم تشومسكي!
قد يكون تصرف هذا الشاب الذي فجّر نفسه كما غيره، نتيجة إرهاب فكري ونفسي جراء إرهاب أكبر صنعته قوى عالمية نشرت المخاوف والادعاءات والقصص الباطلة في كل مكان، حتى بات أي شخص، وخصوصاً الشباب، هم الضحية الأولى في كل هذه القصص، والذين قد تكون تصرفاتهم ما هي إلا ردود فعل لا أكثر من كل هذا الضغط المحيط!
وهنا، تتشكل الحلقة الأضعف عندما تنتمي إحدى الجماعات الإرهابية إلى عقيدة أو مذهبٍ ما، يعتنقه ملايين الناس، لتُفلت زمام الأمور من أهلها، ويختلط الحابل بالنابل، وتسمى الأشياء غير أسمائها؛ كما في "جيش الرب للمقاومة" في إفريقيا، أو تنظيم "الدولة الإسلامية" في بلاد الشام، أو حتى الجماعات البوذية المتطرفة التي تمارس إرهابها ضد الأقلية المسلمة في بورما!
لن ألوم أشخاصاً أقابلهم في بعد حوادث الإرهاب تلك يشيحون بوجههم عني لمجرد أنني أُظهر إسلامي في غطاء رأسي، ولن أغضب كثيراً من أحدهم لو صرخ في وجهي: "أنتِ إرهابية"، فلا جدوى من كل هذا وهُم في غياهب الإعلام المسيس لا يدركون الحقيقة، سوى مَن رحم ربي ممَّن مَلَكَ الحكمة وبحث عن الحقيقة بعيداً عن الإعلام الرسمي.
الناس في بيوتهم يحلمون بنشرة أخبار وردية يصبحون على خيرٍ بعدها، وبالتأكيد لا أحد يريد المزيد من الدماء والجميع يحلم بالتحرر من الإرهاب الفكري الذي شوه الحقيقة وفصّل ديمقراطية تتناسب ومقاسه لا غير. بينما هذا التحرر ليس إلا حُلماً جعلته أيدٍ خفية بعيد المنال! على الأقل، فلنزرع للسلام بذرة في داخلنا لعلنا نجني ثمراً!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.