إساءة الفهم والتسرع في إصدار الحكم قد يكونان من العادات البشرية الأكثر شيوعاً، رغم أنه غالباً ما يكون المشهد ليس كما نظن على الإطلاق، لن أستطيع أن أحصي لكم عدد تلك المرات التي تسرَّعت فيها في الاستنتاج لأكتشف بعدها مدى الوهم الذي كان يستولي على عقلي؛ ليقلب فهمي وتصوري لمجريات الأحداث 180 درجة، وفي بعض الأحيان لا يخلو الأمر من الدراما، ولكن أيضاً هناك مواقف لا تخلو من الطرافة.
أذكر أني عندما بدأت بارتياد المواصلات العامة في كندا للذهاب إلى العمل، كنت أقود سيارتي إلى أقرب محطة مترو؛ ومن ثم أركنها في موقف المركبات لأستقلَّ بعدها المترو من محطة كيبلينغ (Kipling) غرب مدينة تورونتو، وهي المحطة الأولى لانطلاقة المترو في اتجاه الشرق إلى وسط المدينة (Downtown) مكان عملي، وبما أنها المحطة الأولى فدائماً ما كنت أجد مكاناً للجلوس؛ لأنَّ القاطرة ما زالت خاوية، وجرت عادتي -مثل كل الكنديين في المواصلات- إما أن أقرأ، أو أستمع إلى الموسيقى من خلال سمَّاعات الجوال في أذني، أو آخذ قسطاً من النوم إلى أن أصل إلى محطتي، وكنت غالباً ما أختار القراءة، وأذكر أني أنهيت كتباً كاملة مثل كتاب "مهزلة العقل البشري" للدكتور "علي الوردي" خلال جلوسي في المواصلات العامة ذهاباً وإياباً إلى العمل.
لكني كنت أستغرب أمراً ما، كان يحدث معي كل يوم؛ فقد لاحظت أنَّ الكنديين كانوا يتحاشون الجلوس إلى المقعد الذي بجانبي في المترو، وكان الموقف يتكرر كل يوم، وكنت حديثاً على تلك المواصلات ولا أدري ما السبب؟!
ففي اللحظة التي كانت تمتلئ فيها قاطرة المترو، والركاب واقفون لا يجدون مقعداً يجلسون عليه، كنت أنظر إلى الداخلين من المحطات القادمة وأقول في نفسي: "الآن سيجلسون.. لا محالة!"، ولكنهم أيضاً كانوا يفضِّلون الوقوف على الجلوس بجانبي. وفي نهاية الأمر، لم يكن يجلس بجانبي سوى من اضطرته الحياة إلى ذلك! الأمر الذي جعلني أتشكك في الكثير من الأمور، فهل يا ترى رائحة فمي ليست على ما يرام؟ أم رائحة جسدي سيئة؟
وكانت كلها أموراً مستبعَدة جداً، فلم يحدث خلال الأعوام الثلاثين الماضية أن خرجت من المنزل من دون الاستحمام في الصباح وتنظيف فمي جيداً بعد الفطور، فضلاً عن تجديد ملابس العمل كل يوم، فمن المستحيل أن تكون رائحتي سيئة، لأعود إلى التفكير مجدداً بحثاً عن سبب؟! وفجأة.. يا إلهي! فهمت فهمت.. الآن اتضح لي كل شيء؛ فعلى ما يبدو فملامحي الشرقية واضحة على مُحيَّاي، وقد أصبح لا يوجد أدنى مجال للشك من أني شخص غير مرغوب فيه بهذا المجتمع، فهُم لا يريدون أن يجلسوا إلى جانب عربي مسلم! اللعنة على كندا وشعبها… كم هم عنصريون!
مضت الأيام والشهور، وأصبح لديَّ فرصة جديدة للعمل من المنزل بدلاً من الذهاب إلى مقر الشركة في وسط مدينة تورونتو كل صباح، الأمر الذي راق لي كثيراً وقبِلته واعتزلت المواصلات العامة فترة طويلة، ومنحني فسحة للاختلاء بنفسي ومراجعة الكثير من خطط حياتي. ومع حلول شهر رمضان عام 2012، بدأت بتغيير حياتي من جذورها، ومن أهم تلك التغييرات أني بدأت أعمل على أموري الصحية كخسارة الوزن، الأمر الذي قادني إلى خسارة 40 كيلوغراماً من أصل جسمي في عامين، فقد كنت أزن 120 كيلوغراماً قبل فرصة العمل من المنزل، لأزن بعد ذلك 80 كيلوغراماً، وكان مقاس خصري 42 إنشاً، وأصبح بعدها 32 إنشاً، وهذا يعني أني قمت بتغيير خزانة ملابسي بالكامل؛ لأتأقلم مع المقاس الجديد.
بعد عامين من عزلة شبه كاملة عن المواصلات إلى مدينة تورونتو، تغيَّرت مهامي الوظيفية وأصبح لديَّ عدة مشاريع لأديرها، وأصبحتُ أذهب مرة أخرى إلى مقر عملي مرة أو اثنتين في الأسبوع؛ لألتقي فريق عملي وعملاء المشروع، وطبعاً عُدت إلى المواصلات العامة من جديد!
وفي اليوم الأول عندما نزلت من مركبتي وصعدت المترو في محطة كيبلينغ وجلست، أخذت أقرأ بعض الأوراق الخاصة بالعمل تجهيزاً لاجتماعات اليوم، وصعد الجميع وتحرَّك المترو، وكالمعتاد… لم يتغير شيء، وعندما توقَّف على المحطة التالية وبدأ الناس بالصعود، أغلق المترو بابه وتابع المسير، وما زلت أقرأ في أوراقي بتمعُّن لا أشعر بمن هم حولي، إلى أن استوقفتني رائحة زكية، قريبة مني جداً… جداً جداً، أنزلت الأوراق والتفتُّ لأجد فتاة كندية يافعة تجلس إلى جانبي! يا إلهي.. ما الذي حدث؟! هناك من يجلس إلى جانبي طوعاً من دون الاضطرار إلى ذلك، هل زالت ملامحي الشرقية وأصبحت ملامحي كندية؟ لا، فما زلت أنا أنا… العربيَّ المسلم ذا الملامح الحادة، وما زلت أستخدم العطور نفسها التي استخدمتُها منذ سنين، لم يتغير شيء!
بعدها نزلت تلك الفتاة وصعدت غيرها، وكان في القاطرة مجال لأن تختار بين الجلوس إلى جانبي وأن تجلس في مقعد أمامي بجانب شخص آخر، فاختارت الجلوس إلى جانبي.. كم أنا سعيد! وخطر لي مباشرة أهمية أن يكون الإنسان مقبولاً في المجتمع الذي يحيا فيه، فالنفس البشرية لا تقبل أن يرفضها أحد، فيضطر صاحبها إلى الانسلاخ عن مبادئه كي يقبل به الرافضون، والنتيجة تكون الانسلاخ بدلاً من الاندماج.
توقفتُ عن القراءة تماماً وأنزلت الأوراق، وأخذت أفكر في الأسباب التي جعلت الناس يقبلون بالجلوس إلى جانبي، فقد تكرر الموقف نفسه في رحلة العودة إلى المنزل بعد انتهاء العمل، وأخذ يتكرر في كل أسبوع أذهب فيه إلى العمل، فلم يكن أمراً عارضاً، وكأني وجدت مكاني الصحيح في المنظومة المجتمعية وأصبح هناك قبول ضمني جعل الناس تقترب مني أكثر.
وبعد تفكير طويل وعميق، عرفت السبب.. فعندما كنت ذاهباً إلى العمل في صباح يوم ما، لاحظت أنَّ المقعد الذي بجانب شخص سمين كان خاوياً طيلة الرحلة، وعندما حاولت أن أجلس إلى جانبه، لم أشعر بالراحة، ففضَّلت الوقوف على الجلوس، فتذكَّرت نفسي منذ سنوات عندما كنت في نفس موقف ذلك الرجل السمين، وفجأة… انتابتني نوبة ضحك من أعماق قلبي لم أستطع كتمها أو سترها، وذلك كان بسبب نكتة قديمة تذكَّرتها في ذلك الموقف، وبقيت على هذه الحال إلى أن وصلت محطتي وخرجت أسير في الشارع متجهاً إلى مقر الشركة وأنا أهز برأسي يمنة ويسرة، وأقول في نفسي: ويحي.. كم كنت مخطئاً!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.