(1)
ثمة ثوابت في هذه الحياة لا يمكن تغييرها وحقائق لا يمكن إنكارها وأشياء لا يمكن الاستغناء عنها تحت أي ظرف، وإن حدث يكون هذا استثناءً وما عداه القاعدة.
من بين هذه الثوابت أن مصر جميلة.. جميلة جداً.. حتى وهي ترتدي ثياباً رثَّة، وقد كتبتُ في رواية سابقة أن هناك جمالاً يعجز الفقر عن هزيمته.
ومن بين الحقائق التي لا يمكن إنكارها أن مصر مستهدَفة كدولة وأن جيشها مستهدَف كمؤسسة، وإن كانت هذه الحقائق تُستخدم في غير محلها حالياً لتحقيق مصالح سياسية لتصبح "قول حقٍّ يُراد به باطل"، فإن هذا لا يعني أنها ليست حقائق يعززها الواقع وتدعمها الوقائع.
أما عن الأشياء التي لا يمكن الاستغناء، فأقلُّها ذلك الحد الأدنى من الحرية ورفض الخضوع ولو عن طريق السخرية وسكب هيبة الطغاة والتندُّر عليهم في جلسات المقاهي وعلى مواقع التواصل، أو في المواصلات العامة.
(2)
أعتقد أن إطلاق لقب "الحكومة" على الزوجة المتسلِّطة يحمل قدراً لا بأس به من الواقعية؛ فهذه الزوجة على ما فيها من قوة وما لها من سطوة، لا تنجو من سخرية زوجها؛ بل ومن غضبته في نهاية الأمر، وهو ما يؤكد حقيقة أن الشعب هو السيِّد وليس الحكومة.
(3)
أن تكون لصّاً فإن هذا لا يمنعك من الاعتراف بأن السرقة جريمة. ومن ثم، فكوني أعمل صحفيّاً لا يمنعني من القول إن الصحافة واحدة من أسوأ المهن على الإطلاق، إن لم تكن أسوأها فعلاً حالياً؛ فالحقيقة التي لا مراء فيها أنه لا توجد وسيلة إعلام حرَّة على وجه الأرض كما أنه لا يوجد صحفي يستطيع مخالفة من يدفعون له ولو بمنشور على فيسبوك أو تويتر.
المؤسسات الصحفية هي مؤسسات أمنية بامتياز تُدار بعقلية العصابات وتسيطر عليها ميليشيات مسلَّحة بمناصب إدارية تجعلها قادرة على سحق أي متمرد في غرفة الأخبار مهما كانت قيمته.
في عالم الصحافة لا مجال أبداً لحرية الرأي التي تتغنَّى بها المؤسسات. باختصار شديد، المؤسسات الصحفية، ومِن خلفها الداعمون الماديون، تقدِّم لك طعاماً لا تأكله هي ولا تؤمن به وتعتقد أنه مسمَّم. إن تلك المؤسسات التي تقاتل دفاعاً عن الحرية، هي في الأساس لا تؤمن إلا بالحرية التي تحدِّدها وبالرأي الآخر الذي يخدمها. وكل صحفي على وجه الأرض يعرف ذلك.
كل صحفي في هذا العالم يداري خيبته بالحديث عن "السياسة التحريرية للمؤسسة".. هذه السياسة التحريرية، باختصار، تعني أن الحق هو ما يراه الممول حقّاً وأن الباطل كذلك، ولا مجال لأي كلام آخر. ومع ذلك، فإن وجود الصحافة مهم ولو كانت شأنها شأن الدواء المغشوش لمرضَين خبيثين؛ هما الجهل والاستبداد.
وحتى لا أكون مملاً، فسأروي لك بعض المشاهدات الحقيقية التي عشتها شخصياً.
لقد ذهبت إلى دولة خليجية هادئة ونظيفة ويقال إنها تحترم آدمية الناس وإن العاملين فيها يجدون ما لا يجدونه في بلدانهم الأصلية من توقير واحترام وحقوق. ودعني أقل لك إن هذا كله كذب في كذب؛ فمن يحصلون على كل الحقوق هم الصحفيون الذين ينفِّذون سياسة هذه الدولة فقط. أما أولئك القادمون من بنغلاديش أو الفلبين أو سيريلانكا، فليست لهم حقوق تُذكر. وما زلت أذكر ذلك الشاب البنغالي الذي كان يعمل 16 ساعة بـ500 ريال، وهذا مبلغ لا يكفي لشراء الماء في هذا البلد لو كنا نتحدث عن احترام الآدمية وحقوق الإنسان.
في مصر، لن تجد هذا، ولو وجدته فإنك ستجد من بين المصريين من يعطف على هذا المسحوق تحت أحذية الرأسمالية (العبودية الجديدة)، وقد كان الزميل محمود حسين (فكَّ الله كربه) يقول لي إن المصريين يعيشون على التكافل ولا ينتظرون الدولة؛ لأنهم يعرفون أنها لن تفعل شيئاً.
في هذا البلد نفسه، ستجد نفسك فاقداً للحرية تماماً، فالحرية هناك أن تفعل أي شيء وأن تهاجم أي دولة وأن تسبَّ أي شخص وأن تعترض على أي حكومة.. إلا حكومة هذا البلد وقائده وقانونه. ولو نطقت بكلمة واحدة فلن تبقى في هذا البلد يوماً واحداً. وأذكر أن القريبين مني حذروني من أن أتكلم بِحُرية على المقهى أو أن أكتب شيئاً على فيسبوك؛ حتى لا أجد نفسي في المطار بعد ساعة واحدة.
الأمر على العكس تماماً في مصر.. أم الدنيا بحقٍّ.. فأنت تقول ما تريد وتكتب ما تريد وتشتم من تريد وقتما تريد.. ولو قارنت بين من يشتمون على مواقع التواصل وفي المقاهي لوجدت أن المعتقلين بسبب آراءهم لا يقارَنون من حيث العدد بمن يتكلمون بِحُرية. لكنَّ هذا لا يعني أن مصر ليست ظالمة.. فاعتقال شخص واحد عقاباً على رأيه هو الظلم بعينه، ومصر في هذا ظالمة جداً. رغم أنها طيبة إلى درجة "العَبَط"؛ فهي تحرم من يعطيها وتسجن من يسعى لتحريرها وتقتل من يريد حياتها وتكره من يحبها.. وهذه حقائق أيضاً لا يمكن إنكارها.. ومع ذلك، فهي ما تزال تملك شيئاً من الحلم ومن الرحمة ومن العدل ومن العطاء.. هذا الشيء يملكه الناس البسطاء وليست الحكومة.. لكنه في النهاية موجود وسوف يظل ما بقيت مصر.
(4)
لي أصدقاء على فيسبوك لا يجيدون إلا شتم مصر والدفاع عن الدولة التي يعملون فيها والسكوت عن جرائم وفضائح حكومات بلدانهم الأصلية.. هؤلاء جميعاً صحفيون يفتخرون بأنهم يعملون في مهد الحرية ومنبع الحقيقة، ومع ذلك لا يستطيعون التفوَّه بكلمة واحدة خارج النص. لو كانوا في مؤسسة مصرية لكانوا أكثر حرية لكن أقل دخلاً.. فمصر أفضل في كل شيء رغم موتها السريري.
مصر لا تهددك بالإقامة.. صحيح أن المحامي سمير صبري لديه نهم في رفع قضايا إسقاط الجنسية، لكن مجلس الدولة يرفض كل هذه القضايا.. هذه واحدة من صور الظلم والعدالة في مصر: أنك مهدَّد دائماً، لكن النهايات في الأغلب تأتي جيدة.
مؤخراً، نصحني أحدهم بأن العمل يحتاج "حاضر" و"نعم".. هذه نصيحة كاشفة ومؤلمة.. لكنها تؤكد أنك حر في مصر رغم شعورك الدائم بأنك سجين.. سجين للظروف وللجهل وللمؤامرات الداخلية والخارجية.
(5)
مصر جميلة وظالمة ومستهدَفة، هذه حقائق لا تقبل الشك أو التشكيك، وجيشها متورط في السياسة، لكنه صمام أمان العرب ولا شك، وسيظل صمام أمان بإذن الله. وإنْ عارضنا خوضه في السياسة، فإننا لا نقبل بهدمه ونقف في ظهره، لكن في الطريق الحق.
(6)
لقد سافرت خارج مصر فشعرت بأنني غريب وبلا قيمة، وشعرت بأنني لا أستطيع العيش إلا في هذا البلد المزدحم بالتناقضات. صحيح أنني قد أقبل بسفر جديد من أجل المال، وليس بحثاً عن وطن بديل. فليس لي ولا لأولادي وطن غير هذا الوطن النائم في غرفة الإنعاش على أجهزة تنفس اصطناعي، ولن يكون لي غيره أبداً. وقد صدق الراحل العظيم جلال عامر عندما قال: "لا تقف مع ميليشيا ضد وطنك حتى لو كان هذا الوطن رصيفاً تنام عليه"، وأنا أقول: "حتى لو كان ذلك الوطن سجناً".
(7)
مصر تخوض معركة ضد الإرهاب. هذه حقيقة، لكنها تؤجل حسم هذه المعركة. ونأمل أن تتخذ قرار الحسم قريباً ومعه قرار التصالح مع أولادها ولمّ شملهم. فكلهم يحبونها ولا شك، لكن لكل طريقته في الحب. ومن الحب ما قَتَل، والطريق للجحيم مفروش بالنوايا الحسنة كما قيل.
اللهم احفظ مصر قوية أبيَّة، لا ظالمة ولا مظلومة، غنيَّة لا متسوِّلة. قائدة لا مقودة. وارحم كل من ماتوا في سبيلها بلا استثناء.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.