ينتابني شعورٌ قاتل، وإحساس مريب ممزوج بأسئلة كثيرة، يراودني ما لا أستطيع تفسيره، أهو خوفٌ، أم قلق!، أم قلّة حيلة؟.. أسأل نفسي دائماً، ها قد أتى رمضان، كيف أصومه ولا أفطر؟ كيف أقومه وقلبي معي لا يذهب بعيداً؟
يأتي شهر النفحات مصحوباً بكل الوسائل المعيقة لأداء شعيرة الصيام كما يجب أن تكون، يأتي ومعه عالم آخر من الإنتاجات السينمائية، في منافسة قوية تحدث فقط في هذا الشهر الفضيل، يبذل الكتاب والمنتجون والمخرجون الجهد الكثير كي يخرج العمل بالكفاءة التي تستحق لشهر رمضان، وبهذا أصبح رمضان موسماً إعلامياً ضخماً.
استخدام رمضان كموسم سلعي، موسم تنتظره شركات الإنتاج؛ ليتنافسوا فيه لجذب أكبر عدد ممكن من المشاهدين من خلال استخدام أفضل الممثلين وأكثر الأفكار جذباً للجماهير، في محاولة لجذب أكبر قدر ممكن من الإعلانات التي تدر الأرباح، لكنها بنفس الوقت تشغل الفرد المسلم عن القضية الرئيسية فيه، فينغمس الكثيرون بين مشروبّاتهم المفضّلة وأكلاتهم الشهية في الإعلانات التي تفصل بين مسلسل وآخر بدلاً من التفرغ للعبادة.
مما لا شك فيه أن هناك مؤسسات تقوم بعمل ممنهج لخروج المسلم من حالة شعيرة الصوم إلى حالة طقس الصيام، ففي هذا الشهر الكريم يتسابق الجميع للوصول لرضا الله سبحانه، فنبتهل ونتقرب بصلاة وذكر وقرآن وامتناع لسويعات قليلة عما أحله الله، وعلى الجانب الآخر نجد أنفُسنا تحت مخطط عملاق يمزق تلك الأيام المباركة، فالهمّ الأول هو الطعام، ثم يتبعه المشاهد التلفزيونية والبرامج السخيفة ذات المشاهد الهابطة والأفكار الرديئة التي تستنزف الوقت والجهد، بل وتسبب جموداً فكرياً وعقلياً بنسب مختلفة باختلاف المشاهد واهتماماته وسنه، وتمكر الإعلانات على رأس المشاهد بمعان لاذجة لا معنى لها سوى الاستهزاء؛ في محاولة لتحويل الغاية، من رمضان المرتبط في أذهان الناس بالعبادة والذكر والنفحات، إلى رمضان الأكلات الشهيّة والأعمال الدرامية!
ملايين ومليارات تدفع، يظهرون على الشاشات من الصباح الباكر وحتى المساء، مسلسلات وبرامج تعرض تباعاً، حتى لا تدري كم طناً أكلت، أو أي فريضةٍ ضيّعت؟
أموال تدفع ومجهود يُبذل كي يخرج العمل بكفاءة عالية ليعرض على الشاشات في وقت الإفطار الذي هو نهاية عبادة الصوم وبداية عبادة الصلاة والتراويح، فتنسى أن هناك صلاة آتية أو صومٌ كان منذ لحظات، وتتفاعل مع البرنامج الفلاني أو الممثلة الفلانية.
قد تمر عليك لحظات عصيبة وأنت صائم، ولكنه جهاد النفس، كيف تحفظ نفسك ألا تخطئ، كيف تحافظ على صومك وسط كل هذه الأشياء التي صنعت خصيصاً لتسلبه منك، لتخرج منه كما دخلت، أو يخرج هو كما جاء.
رمضان في هذا الزمن العصيب، والواقع المرير، هو درجات عليّة قد يفوق –بمراحل- رمضان في عصور الرخاء واليسر، فالصيام في هذا الزمن يتطلب مشقة كبيرة، ويتبعه إرهاق شديد لكثرة الأوبئة والدروب المظلمة والحفر التي تحيط بنا من كل جانب، والابتلاءات التي تأتينا من كل حدبٍ وصوب.
الفرص التي تأتي تباعاً في أوقات زمنية قصيرة لا تكون بنفس قيمة تلك الفرص التي تأتي على فترات متباعدة، فالفرص القليلة ثمينة جداً والفرص الكثيرة ربما لا نبالي لها لارتفاع نسبة حصولنا عليها مرة أخرى.
رمضان هو الفرصة الوحيدة التي يمكن فيها أن تسبق الأوّلين، ولا يستطيع راكب أن يلحق بك في الآخرين، يمكن لرمضانك أن يرفعك درجاتٍ عليّات عند الله، كما يمكن له أن يكون سبباً لك في الخيبة والخسران.
إن فيكم رمضان فأكرموه، كي لا يرحل قبل أوانه، ربما لا تشعرون أنه رحل!، ولكن ربما إن ذهب لن يعود عليكم مرةً أخرى!.. أذكر أحبابي وأصحابي عندما كنّا سوياً بالأمس القريب، عندما كنّا على مائدة طعام واحدة، نأكل ونلهو ولا نبالي، لو يعلمون أن رمضانهم القادم عند الله، لأحسنوا إلى آخر رمضان في حياتهم.
اغتنموا الفرص واجعلوا من رمضان شهراً لتهذيب النفوس، فكما قيل: "صوموا تصحوا" والصحة لا تكمن في الصوم عن الأكل فقط، فالتأدب صحة روحية، والخلق الحسن أيضاً، تلك مكتسبات الصوم الحقيقية، التي يجب أن يخرج المرء بها من الصوم نهاراً، والقيام بين يدي الله ليلاً.
والصوم لله، وإن الله طيب لا يقبلُ إلا طيباً. الصوم ركنٌ من أركان الإيمان، التي يقع على عاتقك تبجيلها وتقديسها، وقته هو وقت الله، وقت إتقانك لتلك الشعيرة، وأدائها على أتم وجه، طمعاً في مغفرة الله ورحمته وعتقه من النار، وإجلالاً وامتثالاً لأمر الله.. "ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.