كمية الشباب الذين قرروا وبدأوا بالفعل التحضير لمغادرة إسطنبول باتجاه منافٍ جديدة خرافية، الأخطر هو أن الجميع يغادر بغصّة ومرارة وشعور مروع بالهزيمة.
شباب في ريعان ربيعهم، ربيعهم الذي أطفأه ربيع الوهم الذي عِشناه ثم بددته شمس الحقيقة والخيانة المحرقة.
كلهم ساخطون وتائهون، وناقمون على نخبة تظاهرت بالقوة وامتلاك الرؤية، فإذا بالنخبة في المنفى تسفر عن حقيقة أنها سراب كاذب.
أحد هؤلاء الشباب هاتفني منذ قليل وصاح قائلاً: إن كل شيء انتهى.
شاب عمره 24 عاماً، صادر السيسي كل أموال أسرته الثرية في مصر، لم تعد تمتلك جنيهاً. يعدّ الساعات حتى يرحل من إسطنبول التي مات فيها كل شيء جميل. رغم أنني أكبر منه بكثير فإنني لم أجد ما أقوله له. فقط أتمنى أن يتذكر أن يودّعني قبل أن يسافر، وحتى هذا الوداع أخشاه؛ لأنني أعلم أنني سأرى في عينيه كل أحلامنا المحترقة، وأنا لا ينقصني الغضب ولا القنوط ولا القرف، وإذا عانقته في المطار سينتهي المتبقي منّي.
كان ربيعاً للوهم ذلك الذي ظننا أننا صنعناه وتهنا به فخراً على الأمم. كان حلماً أكبر منا ونعمة لم نستحقها فزالت.
أتذكر الآن كل المذابح التي غطيتها وكل التحقيقات التي كتبتها، وكل الأماني التي بروزتها، أتذكرها وأحزن، أحزن وأتساءل: لِمَ جرى كل ما جرى؟
أعلم وأوقن أن لله القدير حكمة بعضها أن نعرف حقيقتنا وحقيقة رموزنا وحجم قوتنا. لكن سؤالي عن الزيف الذي سلّم كل شيء للشيطان ويخرج يومياً في الإعلام لينظّر ويهري ويفتري الكذب.
لماذا ينتصر الطمع دائماً؟ ولماذا لا يفسح النخّاسون بضعة أشبار في العالم للأماني والنوايا الطيبة؟
عن نفسي، قررت السعي قدر المستطاع لترك الإعلام والصحافة، والبحث عن الرزق في أي مجال آخر، كيف سأكتب عن الثورة وأنا الآن خبرت حقيقتها؟ كيف سأبشّر بالنصر وأنا أعرف أنه لن يأتي، على الأقل قريباً؟ كيف سأحاور رموزاً أنا على يقين أنهم كاذبون وشريفهم ضعيف مغلوب على أمره؟ كيف سأتحدث عن وطني وأنا أعلم يقيناً أن الذين يديرون ملفاته هم كل الناس إلا أبناءه؟
ريح صرصر من ضياع تلف كل شيء، وكل الكبار يعترفون بهذا عندما نجلس معهم لكنهم ما إن يجلسوا على كراسي الحوارات الفضائية حتى يتحولوا إلى ببغاوات تلوك هراء هي نفسها لا تصدقه، ليتنا ما ثرنا، وليتنا ما اعتصمنا في رابعة ولا خامسة ولا غيرها من محطات الخديعة تلك.
أعتذر بشدة لكل من أقنعته يوماً أن يشاركنا تلك الأوهام، وأستغفر الله عن ذلك، لكن عزائي أنني – بفضل الله – لم أكن مخادعاً أو كاذباً أو متربحاً.
بالعكس، دفعت الثمن هناك في مصر الحبيبة، وهنا في إسطنبول، مقبرة ربيعنا الجميل، وأخلاقنا التي تعرينا منها على شواطئ بحر مرمرة وخلعناها ليداعب أجسادنا هواء البوسفور.. ولله الأمر أولاً وآخراً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.