قسوةُ وتحرش وعنف.. احذر فالقاهرة بها سُم قاتل

عدد القراءات
8,972
تم النشر: 2018/05/22 الساعة 13:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/11/14 الساعة 07:06 بتوقيت غرينتش
mosque and skyline.

في مثل هذه الأيام من العام الماضي، أصبح لي سكن ثابت في القاهرة، صحيح أنني على مدار السنوات العشر الماضية لم أكن أنقطع عن زيارتها، ولكني كنت أعد ضيفاً، أقيم في في فندق أو لدى صديق، ذلك جعل إقامتي مهما طالت لا تزيد على أسبوعين.

خلال العام الماضي رأت عين الساكن في المدينة الملعونة خلال عام ما لم ترَه عين الضيف خلال عشرة أعوام.

أفتح عينيّ يومياً على قسوة… قدر غير محدود من القسوة يكسو وجوه البشر وتصرفاتهم، في البداية كنت أفزع لرؤية رجل ضخم الجثة يصارع سيدة مسكينة أو عجوزاً للظفر بمقعد في الميكروباص الوحيد المتاح، وأقول في نفسي: ما لهذا المجنون عديم الرحمة، ولكن وجدت ذات السيدة تدفعني للخلف لتفوز هي بالمقعد التالي.. لا تعني بفرق القوة بيننا، وتجاهد كي تدفعني، فأتنحّى لها مندهشاً.

مع الوقت فهمت.. ذلك الرجل هائل الحجم لديه أطفال صغار لو تأخر عن عمله فيعني ذلك ببعض العمليات الحسابية المعقدة نقصاً في عدد الأرغفة المتاحة لصغاره، هو يدافع عن بقائه وبقاء نسله لا أكثر، لقد نزعت عنه أسمال التحضر فصار من الضواري يخوض يومياً حرب بقاء، وكذلك هي السيدة التي دفعتني.. جزء ضعيف من حلبة صراع الجبابرة الكبرى المقامة بحجم القاهرة.

هذا هو اللفظ الصحيح إذاً: حرب بقاء.. هناك بضعة ملايين من البشر يعيشون معاً في تلك البقعة البائسة ويتصارعون على مواردها المحدودة المتمثلة في رغيف خبز وكوب ماء ووسيلة انتقال.

لم أخرج سلمياً من حرب البقاء وتعلمت بدوري أن أتجاهل الأيدي الممدودة لي، فإن أعطيت كل يد وإن عطفت على كل حالة إنسانية أقابلها لما كفاهم ولا كفاني ما أملك، على مدار عام تعلمت أن أصير "مثلهم"، ودربت نفسي على تجاهل كل المشاهد المؤذية التى أمرّ بها في طريقي إلى العمل وأكمل يومي بشكل طبيعي.

وماذا عن الأذى؟ سلوك إنساني آخر يفرض نفسه في القاهرة، أنت تمارس الأذى فقط؛ لأنك تستطيع ذلك، دون مبرر، دون منطق، شر خام يخرج من شوارع تلك المدينة وغالباً ما يوجه ضد الفئات الأضعف وتحديداً النساء، حوادث التحرش التي أراها يومياً في القاهرة لا يمكن فهمها إلا في إطار الأذى المجرد لا شبهة أفعال جنسية ها هنا.

وللسيطرة على ملايين الوحوش التي تعيش معاً في بقعة واحدة تستخدم الدولة نوعين من الضواري؛ رجال الشرطة، والبلطجية، والاثنان يعملان معاً في تكامل وتناغم تام، فتجد نفسك أنت المواطن مسؤولاً عن حماية نفسك من الصراع في حرب البقاء، ومسؤولاً أيضاً عن حماية نفسك من النوعين سابقي الذكر من الضواري.

الحقد على كل ما هو جميل وإنساني صفة أساسية للمدينة القاتلة… هل رأيت ذلك الفيديو الذي يصوّر شاباً وفتاة يظهر عليهما أنهما غائبان في نظرة حب طويلة على أعتاب إحدى عربات المترو؟! حسناً لقد قام مجموعة شباب بصفع هذا الشاب بقسوة ولاذوا بالفرار قبل أن يغلق المترو أبوابه، في إحدى ليالي الصيف سمعت ضجيجاً عالياً لتصفيق وصفير فنظرت من النافذة لأجد مجموعة من حوالي 11 شاباً تحيط بشاب وفتاة يعبران الطريق.. كان يمسك بيدها في خوف وقهر وقد آثر الصمت وأدرك أن خروجها وخروجه سالمين يقتضي بألا يلتفت لهم حفاظاً على سلامة جسدها وجسده، ولكني أدركت أن كرامته لن تخرج سليمة من تلك الواقعة… تذكرت ما قاله أمل دنقل يوماً: كيف تنظر في عيني امرأة.. أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟

في حرب البقاء هناك الكثير من النصابين حتى إنك تجد صعوبة في تصديق الحكايات المأساوية التي يرويها لك المتسول وسائق التاكسي وعامل المقهى… هل فعلاً تصدقهم وتقرر مشاركتهم بما تملك من مال أم أنك صرت منيعاً من التأثر بفضل ما وقعت ضحيته من عمليات نصب سابقة؟

تشبه القاهرة الآن "مدن ما قبل المحرقة".. إنها المدينة التي ستستيقظ غداً على الانفجار العظيم أو انتشار الوباء المهلك أو تحول ساكنيها إلى زومبي.. إننا الآن بالضبط في الليلة التي تسبق العاصفة المرعبة… لا بد لكل هذا الشر من نهاية تليق به.

الشر يقيم في هذه المدينة بين أهلها كأنه واحد منهم، وأنا الذي وُلدت وعشتُ في بيئة قاسية تقدس العنف والدماء أجد نفسي أتضاءل أمام قسوة هذه المدينة… لدينا شر وعنف ولكنهما مبرران، أما هذا الشر المطلق فجديد عليّ تماماً… للشيطان مدن كثيرة أنا الآن أعرف واحدة منها.

تأكل القاهرة أرواحنا شئنا أم أبينا سنصبح جزءاً من حروب البقاء، وسننازع على المعقد الخالي في الحافلة والرغيف الأخير وكوب الماء المتبقّي.

اهربوا بإنسانيتكم خارج هذه المدينة فهي تقتلها في بطء.

مدينة الشر المقيم

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمود عبدالظاهر
باحث حقوقي مصري
تحميل المزيد