هجرتُ قلمي لفترة ما، لأسباب كثيرة، وربما لنقلي لمكانٍ آخر؛ حيثُ الامتحانات وقد ترددت كثيراً في أن أعود إليه، لكن هأنذا عدتُ لأخطَ به ما يجيش في صدري من عبرات.
اقترب ميعاد الامتحانات فتم نقلي إلى المكان الذي سأؤدي فيه امتحاناتي فنوديَ اسمي وتلاهُ "ترحيل فوري"، فبدأت في لملة أغراضي، وساعدني على ذلك أصدقائي الساكنين في نفس عالمي، فخرجت من زنزانتي التي ودعتني بجميع جدرانها، وكيف لا وأنا أسكنها منذ أكثر من عام فقد آلفتني وألفتها وعشتُ فيها واحتوتني، احتوتني بجدرانها من برد الشتاء، ومن حر الصيف.
حملت أغراضي سائراً بها نحوَ زنزانة في بداية العَالَم، وما إن وصلت حتى وضعوا القيد في يدي، إيهٍ يا وطن أما آن لهذا القيد أن يفارق يدي! أما آن لهذه الأيدي أنا تحيا بحُرية! أن تعيش بلا ألم أوَ للقيد فقط قد خُلقت، لقد اشتاقت للسلام والتحية، مصافحة القريب، ووداع الحبيب لكن "لكل أجلٍ كتاب".
قاموا بعملية التشبيه كي يتأكدوا من أن المطلوب هو أنا وليس غيري، سرنا تجاه العربة وصعدنا على درجاتها بصعوبة بالغة فأغراضنا في أيدينا المقيدة، جلست بجوار أحد أصدقائي، كان صديقي في نفس عالمي وفي نفس جامعتي التي لم أطأ موضع شبر فيها قط، فلقد ساقوني إلى هذا العَالَم قبل أن أرى هذه الحياة، دار مُحرك العربة مُعلناً عن تحركها نحوَ العَالَم الجديد حيثُ أداء الامتحانات، وبدأت معاناتي داخل العربة لضيق التنفس وكثرة عددنا، فوقفت عند إحدى الفوهات المغطاة بالأسلاك على هيئة شبكة، والموجودة بالداخل؛ كى تَرى عيني النور ويَشُم صدري هواءً نقياً، وكي أسترق النظر في الوجوه التي تسكن عالماً غير عالمي، دققت النظر فيهم، فرأيتهم أصنافاً كثيرة، فمنهم من انغمس في الحياة ولم يعبأ بغيرها، وكأنه ما سَمِعَ نشيد الأنصار "اللهم لا عَيْش إلا عَيْشَ الآخرة"، وآخر ذاهباً لعمله لجلب لُقْمَة عيش لأولاده فقد حصر كل همه في طَعامٍ وإطعام، وما عَلِمَ أن أكرم مخلوقات الله لم يُخْلَق لهذا قط، وآخر يخرج من فراغ إلى فراغٍ آخر فلا هدف ولا طريق، لكنهم جميعاً اتفقوا في شيء واحد هُم جميعاً لا عِلم لهم بعَالَمي، ولا يتألمون لألمي لكن حسبي أن الله يعلم حالي "إن الله بِكُل شيء عليم"، وحال نظري إليهم راودتني تساؤلات كُثر عن معنى الحياة!
فهل يا تُرى هي فقط في هذا العَالَم وخلف هذه القضبان العقيمة، والجدران الصامتة مُنذ سنين بين القيد والسجان؟!
أم أنها كائن يعيش بيننا لم أعرفه بعد ولا أستطيع الوصول إليه؟!
ما معنى الحياة لشابٍ زُجّ به في عَالَمٍ لا يُريده، في عُمرٍ لم يُناهز تِسْعَة عَشْرَ عاماً، عَالَم لم يقترف فيه ذنباً كي يُكتب عليه أن يحيا فيه لألف يومٍ وما زال فيه، عَالَمٌ جاءه من أجل أنه يُريد الحياة فقط، حياة حُرة، حياة كريمة، حياةٌ كان يتمناها مُنذ صغره، لكن جاءه مَن يعاملونه كخائنٍ لوطنه.
قرأتُ يوماً بأن في بداية خمسينيات هذا القرن كان رئيس محكمة العدل الدولية في لاهاي ورئيس الهيئة التي أنهت الخلاف بين الإيرانيين والبريطانيين بريطانياً وصوّت في هذا الخلاف ضد دولته فغضب البريطانيون ولكنهن لم يعلنوه خائناً للوطن.
فكيف لبلادي أن تعاملني هكذا من أجل طلبي لحريتي، من أجل رفضي لعيشٍ مَرير، فهل يا تُرى كل من يُطالب بحريته يعلنونه خائناً؟!
أم أنهم يريدون أن تسير بانتظام كما يظنون – كقطيع الغنم – وإن كانوا يريدون ذلك فلا بد من وجود غنم أولاً ترضى بهذا الحال.
توقفت العربة أمام العَالَم ونزلت حاملاً أغراضي سائراً بها نحوَ أشباه الإنس؛ كي يقوموا بتفتيشي أو لتكملة نقصٍ مُعين لديهم، زاعمين أنهم يبحثون عن مخالفات، فتركوا ما تركوا، ومنعوا ما منعوا، لكنّ شعوراً بأن مصيرك في يد غيرك مؤلم وكأنك لست بإنسان، أدخلوني غرفة، وأصبح العدد ستين فرداً، ستين فرداً أتوا من أجل كرامة وطنهم، من أجل أن يرفعوه عالياً، ربما كانوا على حق في زمنٍ معوج.
جلستُ أُفكر في العَالَم الآخر، نعم لقد اشتقت لأحيا فيه كما كنت أتمنى منذ صغري "أريد الحياة"، طلبٌ لم يكن كبيراً أمام متعتكم ولهوكم فيها، ربما لم أعد أنتظر من أحدٍ شيئاً فنحن نُخبر الله بما في نفوسنا، نخبره بحالنا الذي يعلمه ونرجوه، أن يعطينا الحياة، لكن الأسف عليكم، فماذا فعلتم كي تُعذروا أمام ربكم؟!
ربما لو استطعت الحديث لكم لصرخت فيكم: "أيها التائهون في الحياة انتبهوا ها أنتم على وشكِ أن تفقدوها من غير رَجعة، أو أن تعيشوا في اللاحياة، أن تعيشوا في الوجودِ المُنعدم أمثال عَالَمِنا".
فإلى من فعلوا بنا هكذا، إلى من رَضيَ بما حدث لنا، لم يكن الله ليغفل عن فعلتكم هذه، فإن كُنتم تتمتعون حالياً فسيستبدل الحال يوماً ما، فدوام الحَال من المُحال.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.