أواخر عام 2010 كنت أعمل طبيبا مقيماً لجراحة الأورام في أحد المستشفيات الجامعية بالقاهرة. ما زلت أذكر مريضة في بداية الأربعينات ظلت تتردد علينا بسبب شكاوى مزمنة حتى انتهينا إلى تشخيص ورم سرطاني بالثدي. جلست إلى السيدة مساء يومِ أَحَد لشرح العملية الجراحية التي ننوي إجراءها لها، وبالطبع للحصول على إقرار خطّي بالموافقة على إجراء الجراحة. من بين كل المرضى الذين قابلتهم، ما زلت أتذكر هذه المريضة.
كانت أربعينية لم تتزوج، موظفة بإحدى المصالح الحكومية وقد تفرغت لتربية إخوتها الأصغر منها. يومها ذكرت لها أننا لا بد لنا من استئصال الثدي والعقد الليمفاوية المحيطة به، وربما نحتاج إلى علاج تكميلي إشعاعي أو كيماوي. جعلت السيدة "هـ" يومها تجادلني وتناقشني -وقد كانت سيدة مهذبة رقيقة- وأنا أجيب على أسئلتها حتى انتهت إلى سؤالي: هل تعلم ما الذي يعنيه هذا العلاج بالنسبة لي كأنثى يا دكتور؟ حاولت مواجهة سؤالها بكل إجابة معقولة، لكنني انتهيت إلى قولي لها: في كل الأحوال هو أهون كثيراً من انتظار الموت بمصاحبة السرطان يا سيدتي.
وقّعت المريضة على الأوراق، وكانت آخر مريضاتي بالوحدة؛ إذ انشغلت بعدها بالتحضير للسفر ومرافقة والدي رحمه الله فترة مرضه. انتهت بعدها -إلى حد كبير- علاقتي مع مرضى الأورام إلا من قريب يستفسر أو مريض يقابلني بصورة عابرة، حتى كان عام 2013؛ حيث بدأت بالقرب من بحر الشمال هنا في ألمانيا تدريباً أساسياً لتخصص الأمراض الباطنية، وهو ما كان يستلزم منّي رعاية مرضى الأورام في المشفى. كان أغلب الزملاء يفرون من هذه الفترة التي ينبغي عليهم فيها أن يعملوا فيها في وحدة الأورام. ولأني كنت أحدث المعينين فلم يكن لديّ خيارات كثيرة غير العمل في تلك الوحدة.
في إحدى المناوبات الليلية اتصلت بي ممرضة القسم تطلب منّي القدوم لبعض الأمور الخاصة بإحدى الحالات المتقدمة لمرضى السرطان. حين ولجت يومها إلى الغرفة راعني مظهر المريض الشاحب والوهن الذي يبدو عليه كما فاجأتني كمية الأدوية والأجهزة الموصلة بالرجل. كان المريض يومها يعاني من ارتفاع في درجة الحرارة، وكانت زوجته وابنتاه يرافقنه حسب تعليمات الطبيب الذي رأى أن هذه الليلة قد تكون ليلته الأخيرة.
اقتربت من الرجل وبادأته ببعض الأسئلة، فطلب منّي بلطف شديد ألا أثقل عليه بالأسئلة أو الفحوصات، ثم أضاف أنه لا يبغي إلا رحيلاً هادئاً دون ألم. حينها انفجرت ابنتاه في بكاء شديد وأحسست بثقل الأمر الذي أواجهه لأول مرة فسارعت بالخروج والحديث مع الممرضة المتخصصة التي أرشدتني كمبتدئ إلى ما ينبغي عليّ فعله. يومها علمت أن ما قلته قديماً للسيدة "هـ" في القاهرة لم يكن مجرد فكرة مؤقتة للخروج من فخ أسئلتها، بل كانت حقيقة أصبتها دون أن أدري قيمتها.. انتظار الموت بمصاحبة السرطان أمر صعب، صعبٌ للغاية.
بعدها ولأسباب لا أدريها توطدت علاقتي بعلاج السرطان رغم أنني أعمل طبيباً للأمراض الصدرية. وسط كل التخصصات الفرعية لمجال الأمراض الصدرية ساقتني قدماي إلى مجال علاج أورام الرئة وهو حقاً أمرٌ مرهقٌ للغاية. كنت في البداية متحمساً جداً، أستحثُّ مرضاي على مواصلة العلاج الكيماوي وأخبرهم أن هناك حلولاً أخرى إذا ما فشل العلاج الأوّلي. هناك خيارٌ ثانٍ وثالث، هناك كذلك العلاجات التجريبية والأدوية المناعية الجديدة.
ثم إني باشرت لمدة ثلاثة شهور علاج السيدة "س" في قسم الأورام، وكانت الأعراض الجانبية للعلاج الكيماوي والإشعاعي معاً شديدة للغاية، حتى إن السيدة قضت 6 أسابيع كاملة بالمشفى، الأمر الذي جعل الزملاء المعالجين يتشككون في جدوى مواصلة العلاج.
كان المرض لم ينتشر أبعد من بعض أجزاء الرئة وهو ما يجعل فرص نجاح العلاج جيدة للغاية. انقسمنا في القسم بين رأيين: فريق يرفض مواصلة العلاج وآخر متحمس للغاية لمواصلة العلاج رغم المخاطر تذرعاً بالنتائج المرجوة.
رُفِعَ الخلاف إلى رئيس القسم الذي لم يرَ أحداً أصوب من الآخر فطرحَ الأمر بكل شفافية على المريضة في حضوري. يومها راعني أن سألتني المريضة عن رأيي الخاص فأشرت إلى أني من المتحمسين لمواصلة العلاج. كنت قد باشرت علاجها منذ لحظة التشخيص وهو ما يربو على الثلاثة أشهر فتكونت بيننا ثقة كبيرة جعل السيدة تميل إلى رأيي وتختار مواصلة العلاج، ثم إنه كان يوم السبت حين فجأ مريضتي أثناء مناوبتي مضاعفات شديدة للغاية استلزمت أن ننقلها إلى العناية الفائقة في حالة متدهورة للغاية.
زرتها في قسم العناية المركزة ورأيت الموت يحيط بغرفتها من كل مكان. راجعتها لعلها تتراجع وتوقع قرار عدم الإنعاش، ضحكت رغم المرض وقالت: أما هذه فلن تقنعني بها. يوم علمت بالوفاة هاتفت ابنتها للتعزية ولم تنسَ الابنة وسط دموعها أن تنقل تحيات والدتها إلينا. أنا أصدق أن السيدة فعلاً أرسلت تحياتها إلينا. في الدقائق التي سبقت غيابها الأخير عن الوعي، أمسكت بيدي وابتسمت وهتفت بصوت واهن: شكراً!
في الأربعاء الأول من الشهر التالي كان اجتماع لجنة الأورام لمناقشة حالات الوفيات، في نهاية الاجتماع أخبرتني أخصائية العلاج النفسي أنها تعلم أن فريق العمل قد طاله من الإرهاق النفسي الشيء الكثير فيما يخص حالة السيدة "س" وأن بعضاً من أفراد الفريق طلبوا منها المساعدة النفسية. كانت السيدة قد علمت بإحباط كبير يسيطر عليّ سببه كوني كنت الطبيب المرافق للحالة. شجعني هذا على طلب مساعدتها وحين جلسنا أخبرتها بشعوري العارم بالذنب؛ حيث إنها اختارت مواصلة العلاج بناءً على توصيتي. الحقيقة أن السيدة قدمت لي دعماً احترافياً رائعاً ما زلت أذكره لها، لكن الدعم الذي انتشلني من تلك الدوامة النفسية يومها كان حين هاتفني رئيس القسم وطلب مني الحضور لمكتبه.
يبدو أن الرجل علم من أخصائية العلاج النفسي بما أسررته لها. ابتسم الرجل بهدوء ثم أخبرني: ينبغي عليك أن تتعلم متى يجب أن تترك مريضك يرحل بهدوء. فليرحل إذا وجب الرحيل لكن بهدوء ودون ألم. هذا أفضل كثيراً من خوض معركة خاسرة مع السرطان وانتظار الموت نهاية المطاف. ثم أضاف لي: وهذا قانون في علاج الأورام السرطانية فاحفظه عني. وأظن أنني بين لقائي مع السيدة "هـ" في القاهرة في عام 2010 ولقائي مع هذا الرجل في 2016 بعد وفاة السيدة "س"، لم أنتفع في مجال علاج الأورام بمثل هذه العبارة القيمة التي تمثل أساس تخصص العلاج التلطيفي في حالات الأمراض المزمنة والحرجة.
أنا أهتم كثيراً لمرضى الأورام، لكني أزعم كذلك أني أهتم أكثر لأولئك الذين ينبغي علينا أن نتركهم يرحلوا بهدوء ودون ألم. هؤلاء المرضى في مصر يعانون أشد المعاناة. ذلك أن المجتمع الطبي ليس بالكفاءة لتقديم هذه الخدمات التلطيفية كما أن الثقافة المصرية -للأسف- ترفض هذا المبدأ. في بلاد الغرب توجد ثقافة الـ Hospice وهي بيوت تمريض للحالات التي أوشكت على الموت؛ حيث يرافق المرضى متخصصون يبغون تخفيف آلام أيامهم الأخيرة.
نعم، يموت المرضى في مصر بسبب ضعف أو انعدام الرعاية الصحية، لكن مرضى الأورام يرحلون في صخب لا يليق أبداً بحالتهم. تدرك هذا كطبيب حين تصر بعض الأسر على (عدم الاستسلام)، ومواصلة البحث عن طبيب قد يرضى بإجراء جراحة ما لحالة متقدمة ينبغي لها أن تجلس في بيتها وترحل بهدوء.
لهذا السبب، أرثى للمصابين بأورام متقدمة لا يمكن علاجها وأدعو الله أن يخفف آلامهم وأن يرزقهم برداً وسلاماً ورحيلاً هادئاً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.