تمر علينا قصص كثيرة ومتعددة، تحكي لنا عن أناس وضعوا ثقة عمياء في غير محلها فجنوا خراباً ما بعده خراب، وعن أناس كانت كل حياتهم خوفاً وتوجساً وشكاً، فتحولت أيامهم إلى بؤس لا نهاية له.
نسمع ممن هم أكبر منا عمراً وتجربةً عن أمثالهم التي تتضارب فيما بينها، وعن نصائحهم التي تدعوك للثقة العمياء وترك القدر يقوم بعمله، وأخرى تحرّضك على الحذر والريبة والتوجّس من النملة التي تمشي تحت رجليك.
بفطرتنا البشرية نميل إلى الثقة بأي طارق لأبوابنا، نشعر بسعادة خفية ونحن بجوار شخص نستأمنه على حياتنا وأسرارنا ومصيرنا، هذه الثقة تشعرنا بأن هناك ملجأً آمناً يمكننا وضع رؤوسنا فوق صدره متى شئنا، دون خوف مما قد يحدث، هذا الشعور أو هذه الثقة نجدها غالباً عند أهلنا، وأصدقائنا المقربين، وأحيانا أزواجنا، أو أبنائنا.. فأن تكون محاطاً بأشخاص جديرين بالثقة هو حظ سعيد وكرم حاتمي وسيع.
لكن تجارب الحياة وانكسارات العمر، وخيبات الدهر، بين حبيب يخون الثقة، أو صديق يغتالها، أو قريب يضيعها بين القيل والقال، نقف منهكين نراقب هذا الكنز الذي فقدناه فجأة، وهذا الإحساس بالأمان والثبات والطمأنينة الذي رحل تاركاً الفوضى تعصف بنا، والهواجس تحتلنا، والشك يقودنا للجنون، ندرك حينها سذاجتنا في تسليم كل شبر من الثقة التي نملك، إلى معاول مَن لم يمتنع في ردمها، فنتحول إلى كائنات مذعورة، متوجسة، خائفة، يرعبها كل حديث مع أي شخص، نفقد بذلك كل العفوية والعذوبة والسلاسة التي كنا عليها، فنحسب للكلمة تخرج من أفواهنا ألف حساب، ونجعل معاملاتنا كلها عبارة عن حركات خشبية لا يفهم لها أي معنى، ظناً منا أننا بذلك نحمي أنفسنا من صدمة أخرى ومن سقوط آخر يكون سببَه شخص حمّلناه مفاتيح ما تبقى من رفات ثقتنا المهزوم.
إن الحياة المغلّفة بتوجس وحيطة مبالغ فيها من الآخر كيفما كان، زوجاً، حبيبة، صديقاً، زميلاً في العمل، أو حتى جاراً بعيداً.. متعبة جداً ومرهقة، ولا يجني منها صاحبها سوى الفوضى وقلة الراحة، عقله مشتت بين تآمر خيالي يُحاك ضده، وعيناه جاحظتان تحاولان رصد تصرف يؤكّد شكوكه، ونومه متقطع تتخلله كوابيس تزيد أرقه وتعظم شكوكه.. في حين أن جميع مَن حوله غير واعون بكل عذاباته التي لا معنى لها.
كما أن الشخص الذي يجعل ثقته مرتعاً لكل قادم وراحل، سذاجته لا تعادلها سذاجة، يقدم كل شيء لديه على مائدة سائغة لمن هبَّ ودبَّ، لا ثوابت ولا موانع تجعله مسيطراً على حياته، يجعل قراراته بيد غيره، وأحلامه رهينة بسواه، يسمح للجميع بالتدخل في شؤونه ظناً منه أن ثقته بهم لا يمكن أن تسمح لهم بإيذائه، لكنه يتعرض للأذية مرة وعشرة، غير أنه ليس بقادر على تغيير مصيره والتخلص من سذاجته التي حوّلته لدمية يحركها الجميع كيفما شاؤوا.
الشعور بالثقة والأمان شيء مهم ورائع وباعث على الراحة، خصوصاً بين الزوجين اللذين يضعان جسديهما كل يوم على سرير واحد، لكن السذاجة في وضع هذه الثقة حيثما اتفق وفتح أبوابها على مصراعيها للجميع لا يمكن أن يكون سوى مصدر للمصائب، كما أن الشك المبالغ فيه والتوجس والهوس من أي كائن متحرك كفيلة بأن تحول حياة أي منا لعذاب مستمر لا حدود له.
أن تقف بين هذين النقيضين مانحاً ثقتك لمن يستحقها بكياسة وذكاء، دون إفراط وسخف يجعلك أضحوكة وهدفاً سهلاً لمنعدمي الوفاء أو تفريط وذعر يحولانك لانعزالي بئيس، هو صمامك الآمِن لتتجنب الصدمات والانتكاسات.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.