شهد أطفالي 3 حروب متتالية، آخرها سقطت علينا 12 قنبلة غاز مسيل للدموع.. قصتي أنا وأولادي في مسيرة العودة بغزة

عربي بوست
تم النشر: 2018/05/18 الساعة 15:46 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/18 الساعة 15:46 بتوقيت غرينتش

على مدار الأسابيع السبعة الماضية، كانت مجموعة صغيرة من المراهقين تلتقي صباح كل يوم جمعة عند زاوية شارعي. وكانوا يتبادلون "تحيات الصباح"، ويتجاذبون أطراف الحديث بودٍ لبعض الوقت، ثُمَّ يتجهون إلى الاحتجاجات عند الحدود مع إسرائيل. وفي يوم الإثنين الماضي 14 مايو/أيار، تجمعوا مرةً أخرى، هذه المرة ليتظاهروا ضد افتتاح السفارة الأميركية بالقدس. كان من المفترض أن تكون ذروة الاحتجاجات في يوم الثلاثاء 15 مايو/أيار؛ إذ تُحيى في هذا اليوم ذكرى النكبة، حين طردت إسرائيل الفلسطينيين من أرضنا في 1948. لكن بطريقةٍ ما تمكَّن ترمب من إضافة يومٍ جديد إلى روزنامة العار لدينا قد يكون هو الأكثر فظاظة حتى الآن.

 

توجهتُ أنا أيضاً إلى الحدود شرقي جباليا مع أربعة من أصدقائي. جميعنا في العقد الرابع من العمر، الجيل الذي شهد الانتفاضة الأولى عام 1987، وفيما كنا نقود السيارة، تساءلنا ما إن كان ذلك سيكون يوماً كبيراً.

 

كُنا فقط قد بلغنا منتصف الصباح حين وصلنا، لكنَّ الطقس كان شديد الحرارة فوق الأرض الطينية الجافة. كان الحشد مزيجاً من الشباب والشيوخ، الرجال والنساء، بمن فيهم النساء كبيرات السن اللاتي يرتدين الزي التقليدي. وكان الحشد مُفتَّتاً، وربما حتى فوضوي، نتيجة تحرك المجموعات المختلفة في اتجاهاتٍ مختلفة. كان المتحدث المُمسِك بالميكروفون في تلك اللحظة –كان الساسة والقادة المحليون يتناوبون على إلقاء كلمات- ينفث غضباً في الهواء مُحاوِلاً إثارة الناس حوله للمسير شرقاً، إلى داخل إسرائيل؛ إذ قال إن لم تكونوا هنا لقطع السياج الحدودي والعبور إلى أرضنا، فربما لا تكونون هنا أيضاً. وقد شعرتُ بالغضب تجاهه.

 

كانت طائرة دون طيار صغيرة تحوم بعيداً، لكن في الاتجاه الآخر، عميقاً داخل غزة مُتجاوِزةً المحتجين المتجمعين عند الحدود. أسقطت الطائرة 12 قنبلة غاز مسيل للدموع. وأيَّاً كان مَن يتحكم في تلك الطائرة، فإنَّه أخيراً فهم اللعبة.

 

في الأسابيع القليلة الأولى من المسيرات، كان الجنود الإسرائيليون يقذفون قنابل الغاز مباشرةً داخل الحشد، فقط لتقذف الرياح الغربية الغاز مجدداً باتجاه الجنود. منذ ذلك الحين، تعلَّموا أن يتعمَّدوا تجاوز الهدف باتجاه الغرب، وبالتالي تعيد الرياح الغاز إلى الحشود.

 

بدأنا أنا وأصدقائي نركض شمالاً لتجنُّب الغاز. لكن الرياح كانت تهب بهذا الاتجاه أيضاً وبدأت عيناي تُحرقان. سقطت ثلاث فتيات على الأرض أمامنا. والتقط الصحفيون، الذين يرتدون أقنعة غازٍ تبدو خيالية، الصور بروية. واصلنا الركض. وسحق المحتجون الفارُّون أفدنةً من نباتات الخيار والبامية والبطيخ. يا له من موسم للمزارعين.

 

بنهاية اليوم، كان نحو 60 فلسطينياً قد قُتِلوا. فَقَد بعض الآباء أبناءهم؛ وفَقَد بعض المراهقين أول أحبائهم. بدا أنَّ الجميع تخلوا عن شيءٍ أو أسقطوا شيئاً وهم يركضون. وأطلق قليلون منا، وهم المحظوظون، السباب –بمزاح- بسبب خسائرنا التافهة بمجرد أن وصلنا إلى بر الأمان. وبحلول الوقت الذي التقطتُ فيه أنفاسي، بعدما توقف قلبي عن النهجان، شعرتُ بشعورٍ عميق: الراحة.

 

حين تنجو من شيءٍ في غزة، يعود نفس السؤال: لكم من الوقت؟ قبل بضع سنوات، كتبتُ رواية حاولت تلخيص هذه المفارقة. كان السطر الأول فيها هو: "وُلِد نعيم أثناء الحرب وسيموت أثناء الحرب". ومثلما هو الحال مع الشخصية في ذلك الكتاب، شعرتُ دوماً أنَّ حياتي مجرد فجوة بين موتين كبيرين. حين أنظر إلى أطفالي أفكر في أنَّهم شهدوا ثلاث حروب في غضون أقل من 10 سنوات. ولم يقضوا قط عطلةً في الخارج. إنَّهم لا يعرفون شعور أن تقود السيارة لأكثر من 40 كيلومتراً في اتجاهٍ واحد.

 

في مساء الإثنين، تجمع المراهقون من جديد في زاوية شارعي. وبعد يومٍ طويل من استنشاق الغاز والركض المتعرج لتجنُّب الرصاص، لم يبدُ أنّهم مهتمون كثيراً بالتأمل الذاتي. "كنتُ بجواره. كان من الممكن أن أموت أنا أيضاً". "إنَّهم يقولون إنَّ الحشود كانت أكبر شرق مدينة غزة". كل ما كنوا يعرفونه أنَّه إذا لم تكن ذكرى النكبة ستصبح نكبةً أخرى، فإنَّه يتعين عليهم أن يعودوا إلى هناك، إلى تلك الحدود.  لم يُمنحوا خياراً آخر للمطالبة بحياةٍ أفضل.

 

حَدَدنا صباح الثلاثاء. فكانت الشوارع هادئة، والناس يسيرون ورؤوسهم مطأطئة، وأعينهم أيضاً كانت تنظر إلى الأرض، وكنت الكلمات تتعثر في أفواههم كما لو أنَّ شيئاً لم يعد يهم حقاً. كان يُهدَف من احتجاجات الحدود أن تكون سلمية، لا أن تكون مذبحةً أخرى. في نهاية المطاف، ربما دعاة الحرب على صواب؛ ربما العدو هو العدو.

 

كانت مواكب الجنائز هادئة أيضاً. حمل شبابٌ الأكفان عالياً على أكتافهم. كان هناك غضبٌ في أعينهم. فهنا كان صديقهم، وهنا ابن عمومتهم، وهنا أخوهم.

 

عند حوالي الثالثة عصراً، بعدما انتهت الجنائز، استقللتُ إحدى السيارات مع نفس أصدقاء يوم الاثنين، وتوجهنا إلى الحدود من جديد. كان الحشد أصغر بكثير، أقل من نصف ما كان عليه في اليوم السابق. لكن بخلاف ذلك كان المشهد مماثلاً. بعض الفتية المراهقين يدحرجون الإطارات باتجاه الحدود ويشعلون النار فيها. وسُحُب الدخان السوداء تتصاعد إلى السماء. والأطفال يُطلِقون طائراتٍ ورقية مُزيَّنة بالعلم الفلسطيني. ومن بعيد، تُقلِع الطائرات دون طيار وتنتشر في الأجواء.

 

وبدأت الطائرات دون طيار تُسقِط قنابل الغاز في تشكيلٍ مثالي. ومن جديد، تناثرنا لنتجنَّب سحب الغاز. وأعدنا التجمُّع بعد دقائق في الساحة الرئيسية، مقابل برج المراقبة الإسرائيلي الرئيسي. ربط فتًى كان يجمع عبوات الغاز السوداء الفارغة معاً وكوَّن قلادةً رائعة. وبدأ يؤرجحها فوق رأسه بمرح وأضحك من حوله.

 

جولة أخرى من إطلاق النار. المزيد من الركض. طائرة دون طيار سقطت من السماء تدور بطريقة حلزونية بطريقة غير رشيقة ما لو كانت طائراً اصطيد. ركض الأطفال إلى مكان سقوطها: نعم، الإسرائيليون أيضاً يفقدون أشياءً. لمس أحد الفتية الطائرة بحذر، خوفاً من أن تكون ساخنة أو أن تنفجر. وحين أدرك الأطفال أنَّه كان من الآمن لمسها، أرادوا جميعاً التقاطها واللعب بها. رأيتُ ابتساماتٍ، وسمعتُ حماسهم. ثُمَّ بدأت مجموعة من مكبرات الصوت تصدح بالأغاني الوطنية التي تعود للسبعينيات، مُغطيةً على أصوات الأطفال.

 

كانت الأجواء تُظلم، وتوجهنا إلى المنازل. وبينما كنتُ أقود مع أصدقائي، أخطأتُ في الاقتباس عن الشاعر توماس ستيرنز إليوت في رأسي: "مايو/أيار هو الشهر الأقسى، حيث تخرج زهور الليلك من الأرض الميتة". (كان إليوت يتحدث عن شهر أبريل/نيسان وليس مايو/أيار في أبياته، وفي ذلك كناية عن مشاعر الاكتئاب التي تبعثها ألوان الربيع).

 هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The New York Times الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
عاطف أبو سيف
أستاذ علوم سياسية فلسطيني
تحميل المزيد