أتظن أنك في حاجة إلى السعادة؟ وهل الناس في حاجة إليها؟ فالسعادة غاية منشودة، وشيء غير محسوس، لا يمكن أن تبصره؛ لأنه موجود في النفس، فالناس جميعهم محتاجون إليها، ولكنهم يقصرونها على جانب معين من جوانب الحياة، فترى كل إنسان يفسرها بما توحي به طبيعته، وجبلته، وبما يملي عليه عقله، وعقيدته، وبما تطمح إليه النفس، وتطلع إليه همته، فالفقير يرى السعادة في المال واليسر، والمريض يرى السعادة في الصحة والسلامة، والذليل يرى السعادة في الجاه والسلطان، والعاشق يرى السعادة بالظفر بالمعشوق، والخيّر يراها في إضافة المعروف على المستحقين، فهولاء قصروا السعادة فقط فيما يحتاجون إليه فحسب، أي أن الإنسان يجاهد فيما لا يملك ويحسبها فيما ينقصه.
ويعجبني في هذا المقام قول الإمام الغزالي في كيمياء السعادة: "واجب عليك أن تعرف حقيقة نفسك، حتى تدرك أي شيء أنت، ومن أين جئت إلى هذا المكان، ولأي شيء خلقت، وبأي شيء سعادتك، وبأي شيء شقاؤك، وقد جمعت في باطنك صفات، منها صفات البهائم، ومنها صفات السباع، ومنها صفات الشياطين، ومنها صفات الملائكة، فالروح الحقيقية هي جوهرك وغيرها غريب منك وعارٍ عندك، واعلم أن سعادة البهائم في الأكل والشرب والنوم والنكاح، فإن كنت منهم فاجتهد في أعمال الجوف والفرج، وسعادة السباع في الضرب والفتك، وسعادة الشياطين في المكر والشر والحيل، فإن كنت منهم فاشتغل باشتغالهم".
فيخطئ من يحصر السعادة في جانب معين من جوانب الحياة، ويجعل ذلك معياراً ومقياساً لها فهي تتعلق بالجانب النفسي أكثر من المال والرفاهية، بدليل شقاء أصحاب المال، وسعادة الفقراء، فهل تعتقد أنك لو حصلت على المال سوف تصبح سعيداً؟ وكيف تصبح سعيداً وغيرك لم يسعد بها؟ فهل أنت أكثر منه ذكاءً وأشد بأسأً؟ أم أنك ضللت الطريق كغيرك ممن سبقوك؟
فحاجة الناس إلى السعادة أعظم من حاجتهم إلى ما سواها من ضروريات الحياة؛ لأن الإنسان لابد له أن يعرف مواطن وطرق سعادته الحقيقية، فيستحيل عليه أن تتلاشى السعادة من فكره، فهي غاية، ووسيلة وفطرة جُبل عليها للعيش في الحياة بسكينة وهدوء، من أجل الوصول إلى الآخرة التي تكمن فيها السعادة الحقيقية، فيكون في أتم سعادة بمجاهدته لنفسه، وكدحه في الدنيا والتزامه بما أمره الله به، ونهى عنه، فالفارق بين سعادتي الدنيا والآخرة، أن سعادة الدنيا هي معبر وجسر للسعادة الحقيقية في الآخرة، فالراحة لا تأتي إلا بعد التعب.
أعلم ما يدور برأسك، وكأن لسان حالك يحدثني فيقول؛ كأنك لم تعش معنا في هذه الحياة التي امتلأت بالصعوبات والعقبات حتى أصبح وبات كل إنسان يرى وجوه الآخرين من حوله وقد نحتت عليها التعاسة، والبؤس، من قلة حيلهم وعجزهم عن إسعاد أنفسهم، ولكن لو فكرت لرأيت أنهم نظروا إلى المال نظرة المنقذ لكل شيء، ولم يلجأوا إلى خالقهم، ولم يرضوا بما قسم الله لهم.
فلو صدقنا أن حاجة الإنسان إلى السعادة تكمن في ممارسة عمل محبوب والتمتع بصحة جيدة ــ التي هي روح السعادة ــ وأن يقبل الإنسان الحياة بحلوها ومرها، وأن يعيش في حاضره ولا يندم على ما فات، أو يتوجس مما هو آت، وأن يفكر الإنسان قبل أن يتخذ القرارات، وأن ينظر إلى ما هو دونه، وأن يعتاد الإنسان على الابتسام، والمرح، وصحبة المتفائلين، وأن يعمل على مساعدة الآخرين حتى يصيبه عطر السعادة؛ فحاجتهم إذاً إلى السعادة ليست أقل حاجة من الشمس والقمر والرياح والمطر، فكيف ينعم بكل هذا إذا لم يكن سعيداً؟
مثال بسيط: لو تعطلت سيارتك أو أي شيء هام بالنسبة لك تستخدمه، ولا تستطيع أن تستغني عنه، ستذهب على الفور للمختص لكي يصلحه لك، في المقابل إذا تعطلت أنفسنا، وبعدت عن السعادة تركناها، ونقعد نسب الدهر على ما نحن فيه، وأنت في يدك أن تعالج وتصلح من نفسك؛ لكي تعود إلى سعادتها واستقرارها.
ونستطيع أن نلخص احتياج الإنسان إلى السعادة بقولنا: إن حياة الإنسان تتكون من مادة، وعقل، وروح، فلماذا نسعى إلى تحقيق سعادة المادة ونتناسى سعادة العقل والروح؟ وهما الأساس في كل شيء، فحياته تشتمل على مركب من العناصر المختلفة، لا يمكن أن يسعد إلا إذا تغذت هذه العناصر بطرق متساوية، غير متفاوتة، فكما تريد أن تسعد جسدك وأسرتك بالمادة والأكل والشرب، يجب أن تسعد عقلك بالعلم والمعرفة، وتسعد روحك بتعلقها بالله الذي هو أساس كل شيء، من أجل تحقيق التوازن الانفعالي، وتنشيط العلاقات الاجتماعية، وتخفيف الضغوط اليومية، وتحقيق الغاية المنشودة من خلق الإنسان ووضعه على الأرض.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.