شجرة الدر تتعاطى المخدرات.. وسيف الدين قطز يحب هالة! رمضان في صورته الجديدة

عدد القراءات
10,538
عربي بوست
تم النشر: 2018/05/17 الساعة 16:03 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/18 الساعة 09:43 بتوقيت غرينتش

لهذا الشهر رائحة، ولهذا الشهر صوت.. وله شخصية كاسحة حفرت الذكريات لدى كل واحد منا. لو لم يكن لديك فيض من الذكريات يتعلق برمضان فأنت على الأرجح لست مصرياً.

لرمضان صوت.. لا شك في هذا، وأنا أضع على رأس قائمة الأصوات صوت الشيخ محمد رفعت الرهيب المزلزل، القادم من عوالم يعرفها هو وحده، والذي تقشعر لسماعه وتنتعش. بعد هذا يأتي صوت تواشيح النقشبندي.. هذه تواشيح قد استطاعت أن تكون هي صوت رمضان بجدارة، وكل مصري يعرف الجو الذي تبعثه كلمات مثل: (يقول أمتي.. يا رب أمتي).. أو صوت تواشيح ما قبل صلاة الفجر، مع صوت مَن يقول بصوت عالٍ ممطوط: "اللهم صلّ على حضرة النبي ي ي ي".

يمكن بشيء من التحفظ أن تضيف أصواتاً أخرى: في طفولتي كان هناك ارتباط خاص بصوت القلي أو التحمير القادم من المطبخ والمرتبط بأمي.

الأم المصرية المعتادة تقف في الحر وسط الأبخرة الخانقة، كأنها هكتور في حرب طروادة. وكانت تعترف لي كثيراً أنها تتلذذ جداً بهذا الشعور: أبناؤها صائمون ونائمون بانتظار المدفع بينما هي تحارب في المطبخ وحدها. ثم المدفع الذي كان يرج البناية رجاً مع صوت الجندي (الحمش) الذي يحسب أنه يحرر القدس شخصياً.. لماذا لم تعد البنايات ترتج بصوت المدفع؟.. صوت ثلاثي أضواء المسرح قادماً من التليفزيون يردد (بايم بايم) التي لم أفهم معناها حتى اليوم، ثم أغنية حزينة لشادية في الراديو تبكي على النصيب والناس المجاريح، وشويكار تمط الألفاظ وتعابثها بشكل يجعل وجه أبي يحتقن غيظاً وهو يرشف الحساء، ثم جاء صوت نيللي ثم صوت شريهان، ثم شعر الناس في لحظة أنها لعبة سخيفة وفقدوا اهتمامهم.

على أننا نلاحظ أن فوازير ثلاثي أضواء المسرح كانت ساذجة جداً، ومن الواضح أن معظم الحوار كان يرتجل ساعة التصوير، فقيرة الإمكانيات لحد لا يصدق، وكانت جوائزها من نوعية ساعة اليد والدراجة، وحلولها كانت صعبة جداً (أذكر فزورة تدور حول هروب روذرفورد للولايات المتحدة وفزورة حول لقاء هانيبال بسكيبيو الإفريقي!). مع الوقت صارت الفزورة أكثر شياكة وصارت حلولها في غاية الهيافة على غرار (ما هو الشيء الذي يحرق ونطبخ عليه طعامنا؟). وصارت الجوائز لا تقل عن أطنان ذهب وشقق كاملة التجهيز.. لقد ازدادت الأشياء أناقة وتفاهة معاً بمرور الوقت. صار المظهر أهم شيء في الكون.

لن أنسى رمضان الذي توقفت فيه فوازير ثلاثي أضواء المسرح في اليوم العاشر؛ لأننا عرفنا لدى عودتنا من المدرسة أن الجيش المصري عبر قناة السويس. وقضينا الليل نفكر في هؤلاء الأبطال الذين يحاربون في صحراء سيناء في هذه اللحظات بالذات تاركين أهلهم يذوبون قلقاً عليهم، وعند الفجر راح البيت يرتج.. لكنه ليس ارتجاج مدفع الإفطار بل ارتجاج المدفعية المضادة للطائرات في مطار محلة مرحوم القريب. رائحة البارود تمتزج بهواء الفجر النقي وتتسلل لأنوفنا فتتقلص أحشاؤنا.

من ضمن أصوات رمضان المهمة جداً صوت زوزو نبيل تقول وهي تتثاءب: (مولاي) في ألف ليلة مع موسيقى كورساكوف الساحرة. يمكن القول بلا مبالغة: إن كورساكوف صنع جزءاً حميماً من تراثنا.

أما عن رائحة رمضان فحدّث بلا توقف.. رائحة مصر ذاتها.. رائحة الأحياء الشعبية وماء الورد الذي يذوب في الماء المثلج ويقدم للمصلين في المساجد بعد الصلاة.. رائحة الكنافة والقطائف وهما في مرحلة العجين الأولى. ثم السحور الذي تقاوم فيه النعاس بالقوة، يختلط برائحة الشمع الذائب في فانوس جميل من الصفيح صنعه عم شحتة أو عم بيومي في زقاق ما من (درب الأتر).

"أكل حتى الفجر.. نوم حتى الظهر.. خناق حتى العصر.. ترقّب حتى المغرب".. هكذا وصف الساخر العبقري محمد عفيفي صيام أغلب الناس، وهي مقولة ما زالت قادرة على جعلي أبتسم..

قلت في مقال قديم: إنني عشت رمضان في مختلف الفترات.. رمضان في يوليو وأنا أعمل في تلك القرية المجاورة لكفر الزيات، عندما تركب أربع مواصلات يومياً وتعود لدارك منهكاً ليست في جسدك قطرة ماء واحدة.. تنام كالقتيل وتصحو لتكتشف أن ثلاث ساعات ما زالت تفصلك عن كوب الماء المثلج؛ لأن موعد المغرب هو الثامنة مساء! لم أعرف أنني سأعيش حتى تدور العجلة من جديد، لكن على الأقل لا أضطر للسفر في الحر! في ذلك الوقت كنت أعتقد أنه عندما يدور رمضان دورته من جديد سأكون نسياً منسياً.

إغراء شديد يدفعني لأن أقول: إن رمضان لم يعد هو رمضان. يبدو أن هذه غريزة قوية عند البشر تشبه الطعام والجنس.. أن تجلس لتندب ضياع الماضي الذي كان رائعاً دائماً. نغمة (لم تعد الأمور كما كانت) شهية جداً. سأقاوم بصعوبة ألا أغرقك في تفاصيل كهذه.. حتى المقالات من طراز مقالي هذا (كنا نفعل كذا وكذا في رمضان.. كان أبي يفعل كذا.. لم يعد لشيء ذات المذاق.. إلخ).. حتى هذه المقالات صارت تثير سأمك؛ لأنك قرأتها ألف مرة من قبل.

لقد امتد بك العمر لترى فوانيس رمضان العجيبة التي تعمل بالكهرباء والقادمة من الصين.. ظهرت فوانيس على شكل باربي وتغني (العنب.. العنب)!.. ثم ظهر المفتش كرومبو.. هذا العام بدأ سبونج بوب يظهر في كل مكان. هناك (عكّ) غير عادي في هذا، فالخلط بين شخصية كارتون غربية وأثر فاطمي موغل في عراقته أمر مشين. يجب أن يكون الفانوس من صفيح سيئ اللحام يتفكك بسهولة، وعليه زجاج ملون، ويشتعل بشمعة.. ويحرق يدك الصغيرة.. غير هذا سخف.

رأيت بوجي وطمطم في رمضان ورأيت فوازير شريهان وكل حيل الكاميرا الخفية التي تهدر كرامة المرء وتستفزه وتثير جنونه من أجل ضحكة بلهاء.. ثم رأيت رمضان دون فوازير خالص (ولعل هذا أفضل شيء جديد).. ثم رأيت رمضان دون تليفزيون مصري أصلاً؛ لأن الناس هربت إلى الفضائيات منذ بدأ عصر الريادة.

ازدادت الطوابير أمام باعة الكنافة والقطائف وإن تضاعف الذعر في الوجوه والرعشة.. كأن كل واحد يخشى أن يفوته شيء سوف يظفر به الآخرون.. ولا شك أن الناس كذلك صاروا أكثر شراسة وعدوانية، ولعلها أخلاق الزحام. أخلاق الزحام تجعلك تشعر بقلق متزايد من أن رغيفك ليس مضموناً وهناك من سيخطفه في أي لحظة.

وقد لاحظ أحد الصحفيين أن كثيرين يفطرون قبل الأذان في موائد الرحمن؛ لأنهم يفتكون باللحم بمجرد جلوسهم!.. لو انتظروا الأذان فلربما اختطف شخص آخر اللحم!

في التليفزيون، إعلانات السمن هي هي.. إعلانات الشاي هي هي.. في زمني كان إعلان الميلامين جامد ومتين له شجن وسحر خاص، وبعده كان إعلان (شهادات الاستثمار. الفايدة متزايدة)… مع الوقت أصابنا الذهول عندما رأينا إعلانات عن اختراع اسمه التليفزيون الملون. لسبب ما كانت إعلانات التليفزيونات تكثر في رمضان كأنها تحركك لشراء تليفزيون قبل أذان المغرب. وكانت هناك سلسلة إعلانات الفنان حسن عابدين الشهيرة: يا ترى ما هو سر (…..)؟ الآن تسللت إعلانات خطوط الموبايل..

نفس الجلسات لنفس الفنانين ونفس المقالب.. عندما أرى هذه الجلسات أشعر بأنهم يقولون لنا: "هكذا يتكلم أسيادكم وهكذا يمزحون.. هذا هو الشيء الوحيد الجدير بالمشاهدة يا أولاد الفقرية".

المسلسلات فقدت مذاقها القديم.. حاولت أن أتابع بعضها فلم أقدر. كانت الكثرة تغلب الشجاعة لكنها اليوم تغلب التميز. مستحيل أن تتابع 9889798 مسلسلاً كل يوم، وتحتفظ بسلامة عقلك وتوازنك النفسي.. قائد الفرس يحاول الفوز بالأسيرة العربية الحسناء لنفسه.. ثم المسلسل التالي حيث يسرا تكتشف مؤامرة للتجارة بأطفال الشوارع.. المسلسل الثالث والأب يكتشف أن ابنته تقابل (عادل).. المسلسل الرابع حيث يقرر المطاريد الصعايدة أن يخضعوا لـ(حمدان) صاحب أكبر شارب فيهم.. المسلسل الخامس حيث يكتشف الباشا أن الصحفي الذي يهاجمه في مقالاته هو (إبراهيم)..

في نهاية رمضان تكون أحداث المسلسلات قد تداخلت تماماً.. قائد البيزنطيين ينتظر عودة البنت (هالة) من الكلية؛ لأنه يعتقد أنها تزوجت عرفياً من زعيم المطاريد. سيف الدين قطز غاضب جداً؛ لأن المستند المهم قد اختفى وهو يخشى أن يصل للنيابة، وهو يعتقد أن شجرة الدر تتعاطى المخدرات، والباشا يحب منى، لكنها تمضي أكثر الوقت في الديسكو..

هناك كذلك تلك الظاهرة التي تفاقمت منذ أعوام: حالة تقمص جان دارك لدى الفنانات الكبيرات، ونفس الكلام الفارغ عن (بنتك اتأخرت في الكلية يا ست هانم) و(المستند ده لو وصل النيابة يا مراد بيه كلنا حنروح ورا الشمس) والفتيات اللاتي يصحون من النوم بكامل مكياجهن، والميزانسين الأبله الذي يصر عليه كل المخرجين والزووم الذي ينقض على وجه كل شخصية وهي تنهض لتأخذ دورها في الكلام، وإضاءة التنعيم على وجه سميرة أحمد وفيفي عبده ونادية الجندي التي تخفي التجاعيد وأي تعبير تمثيلي ممكن، والتمثيل غير الرديء غير الجيد الذي يفي بالحد الأدنى دون دراسة حقيقية للشخصية.. شخصية إيه؟.. من الواضح أنهم قرأوا عبارات الحوار قبل التصوير بعشر دقائق، ومحمد صبحي الذي يعتقد أنه مصر فلم يعد ينطق إلا بالمواعظ والمُثل وهو ينظر حالماً في عدسة الكاميرا، كأن الفنان الكبير يجب أن يقول كلاماً كبيراً وكأن أدوار الشر والخلل النفسي لا تليق به.

تعال نخرج إذن ما دمنا سئمنا التليفزيون..

هناك قطاع من المدينة لا ينام أبداً ويستهلك كمية أضواء تكفي لإضاءة لاس فيغاس كلها.

ثمة اختراع جديد اسمه الشيشة على المقاهي طيلة ليالي رمضان، واختراع جديد اسمه المرأة التي تدخن الشيشة؛ لأن رجلاً أحمق يعتقد أن هذا مثير جنسياً، برغم أن هذا المشهد يرتبط في ذهني بالمعلمة (عدلات) بتاعة المدبح فقط..

ما هي المتعة غير العادية في إمضاء ساعة تلو أخرى على المقهى وسط سحب الدخان والضحكات، والغريب أن هذا يمتد حتى صلاة الفجر يومياً.. وهذا يذكرنا بالعبارة الشهيرة التي بدأت تظهر في الصحف في السبعينيات: "سحور بارتي راقص على أنغام الموسيقى".

مئات الأمثلة تجعلني أتساءل: هل تغير رمضان حقاً وفقد مذاقه القديم الحبيب؟.. أم إنني تغيرت وذبلت براعم تذوقي؟.. ربما كان الاثنان معاً..

على الأقل ما زال الشيخ رفعت والنقشبندي بصوتيهما الأثيرين القادمين من عالم آخر.. ما زالا في مذياعي وأرجو ألا يقرر أحد إلغاءهما يوماً ما على سبيل التجديد.. ما زال صوتا عبد العزيز محمود وعبد المطلب يقولان: مرحب شهر الصوم مرحب.. ورمضان جانا. عندها فقط أتصالح مع الطفل في داخلي وأبتسم.

جزء من كتاب دكتور أحمد خالد توفيق: قهوة باليورانيوم

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
أحمد خالد توفيق
روائي مصري
تحميل المزيد