أن تذهب إلى مستشفى في مصر وأنت فقير.. هذا ما حدث معي

عربي بوست
تم النشر: 2018/05/17 الساعة 10:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/17 الساعة 10:06 بتوقيت غرينتش
Profile close up view of a young homeless caucasian male - in his late 20s or early 30s - sitting in a dark, damp subway tunnel, his knees drawn up and his head bowed. He is hungry, lonely and desperate. The man has short cropped hair and an unkempt beard. There is a look of sadness, loneliness and desperation in his eyes. He is sitting on a piece of old cardboard Horizontal image with room for copy space.

في المستشفى "ش" أسرعنا في إدخال المريض إلى غرفة الرعاية، قابلتنا ممرضة ترتدي فيونكة في عنقها مع "يونيفورم" الممرضات، الذي بدا عليه علامات الرقيّ والهندام.. استعجل أحدنا الطبيب فحضر يمشي يقدمُ قدماً ويؤخّر الأخرى، في مشية لزجة ممزوجة بكِبر، وقف أمامنا وقال: أين المريض؟.. أشارت الممرضة بانحناءة خفيفة إلى غرفة العمليات فعاقبها متلهفاً: هل الأجهزة تعمل؟ قالت: لا لم نقُم بتشغيلها بعد..

سمعت هذه الكلمة وفي خاطري أن يقول الطبيب: لمَ لم تقوموا بتشغيلها، فأنتم على دراية بكيفية التشغيل؟ أو ما شابه من الجمل التي تدل على خوفه من مضاعفاتٍ قد تحدث للمريض الملقى بالداخل، ولكن حدث غير المتوقع منه؛ إذ تنهد تنهيدةً دلت على الارتياح، وقال: مَن المسؤول عن المريض؟.. فقال أحدنا: أنا، فتابعه ببعض الأسئلة الطبية وقال في النهاية: من أرسلكم؟.. لم يفهم صاحبي السؤال، وفهم الطبيب هذا فقال موضحاً سؤاله الأول: أتيتم إلى هنا عن طريق توصية من شخصيّة مهمة أم طبيب محدد؟.. فقال صاحبنا: لا.. لقد ساءت حالة المريض وأنتم الأقرب لنا، كما نعلم أنكم الأفضل في هذا المجال إن لم تكونوا الوحيدين.. فأشار الطبيب إلى الممرضة بحركة بهلوانية لم نستطِع فهمها ورحل.

جلست الممرضة على كرسي الاستقبال وبدأت تدلي علينا قائمة الطلبات: نريد إشاعة "خ" من المركز "ط"، وإشاعة "ج" من المعهد "ظ"، وطلبات أخرى كثيرة، وقفنا أمامها عاجزين، بيننا وبينها مريض مُلقى في غرفة الرعاية والأجهزة تحول بينها وبين أن نفعل لها ما تريد.

كان العجز هو سيد الموقف، فجميعنا لسنا أولاد رموز في الدولة أو لنا واسطة عريضة كي نتحدث إليها.. في الزاوية أقرب الناس إلى المريض يبكي بكاء العاجزين، نسمع نحيبه يدمي أفئدتنا، يبكي بكاء اللاحيلة، أحد أحبابه ينزع من بين يديه وما باليدّ حيلة!

صرخ فينا أحد الواقفين أن أسرعوا ما العمل، فقال آخر للممرضة نريد تشغيل الأجهزة لإنقاذه ولا عليكم سندفع لكم.. جلست تملي أرقامها للحاسبة التي كانت أمامها وقالت في النهاية: ستكون تكلفة اليوم الواحد هنا "غ"  من المال.. سمعنا الرقم وكأنما أُلقيَ علينا ماء مثلج، أفواهنا مفتحة، وكأنما عقولنا تلاشت فجعلت أذهاننا شاردة في فضاء الأرقام، فما قالته يفوق قدراتنا جميعاً.. المريض مصاب بحالة لا علاج لها سوى هنا، أنتم فقط من لديه الحل، أو يموت!.. هكذا صرخ فيها مَن كان يبكي بحرقة وأعقب كلماته بألم  شعر به كل واقف: تريدون أن تسلبوه منّا؛ لأننا لا نستطيع أن ندفع؟ هل هذا ذنبنا أننا لسنا من ذوي أحد المهمّين أو رجال الدولة؟ إلى أين نذهب قولي لنا رجاءً؟!

صمتت قليلاً، وكأنها تريد أن تقول: ليس من شأني، ليس لي من الأمر شيء، فأنا مجرد عاملة لا أكثر، وأشارت إلى حي الـ"ق"؛ حيث يتواجد هناك مستشفى "م" الذي هو لأمثالنا "وكأن لسان حالها يقول"، وتابعت: ستجدون هناك أسعاراً أقل من هنا.

أسرعنا في حمل المريض وجميعنا تقتله التساؤلات: مَن المسؤول عن هذا التقسيم؟ مَن الذي حكم أن تعالج هذه الطبقة من الشعب ويموت هؤلاء لأنهم أقل منهم شأناً؟ بل من حكم أنهم أقل منهم أصلاً! كلنا بشر، وكلنا عبيد، وكلنا ولدتنا أمهاتنا! وجميعنا سنعود إلى التراب، لا فضل لأحد على أحد، ولا أفضلية لأحد دون أحد، من الذي أصدر قراراً بأن يعالج هذا أفضل العلاج في أفضل الأماكن وأعلاها وفي مستشفيات القمّة؛ لأنه وُلِد في بيت وزير أو نائب أو شرطيّ أو صاحب نفوذ، ويلقى هذا الذي ليس من ذويهم في مستشفيات متدنّية، ليس فيها ما يسعف المريض أو يضمد جروحه الملتهبه!

يمكن أن يكون التمييز في أي شيء آخر، يمكن لشخصٍ أن يلبس أفضل الثياب ويمشي آخر تلسعه قرصات البرد؛ لأن ملابسه رقيقة أو ممزقة، ويمكن أن يأكل شخص في أفضل الأماكن وأشهى الأكلات، ويأكل آخر ما يسد رمقه ليتنفس أو يأكل فتات الخبز ليعيش، ويمكن لشخصٍ أن ينام فوق الحرير، وآخر فوق الحصى أسفل الكوبري؛ لكن المرض لا يمكن فيه التمييز، لا يمكن لشخص أن يتفضّل على آخر في هذا الابتلاء، فلا دينياً ولا أخلاقيّاً ولا إنسانياً أن تمنع دواء عن مريض لمجرد أنه من طبقة متوسطة أو فقيرة، أو لأنه لا يملك واسطة، هل الحياة لا بد أن تكون بواسطة  كي يعيش الجميع؟

وصلنا إلى المستشفى "م"  كما أخبرتنا الممرضة بعد معاناة مع الطريق، ودخلنا ولكن لم نستطِع أن نصل إلى غرفة الرعاية إلا بعد محاربة مع أجساد ملقاة في الممرات هنا وهناك، يصرخون ويتأوّهون، منهم مَن بُترت ساقه ولم يسعف حتى الآن، ومَن كُسرت يده ولم يستطِع الحصول على حبات المسكن، ومن تصرخ من ألم الولادة ولا تجد من يسعفها، وآخرون يصرخون بدا عليهم كما لو أن أحداً انتشلهم من أسفل الأنقاض حالاً، كأنه حادث طريق أو ما شابه!

أسرعنا في إدخال المريض إلى غرفة الرعاية، وطلبوا منّا بعض الصور الإشعاعية والتحاليل، ولكن هذه المرة بسهولة تامّة عكس المتوقع.. دخت علينا فتاة ضخمة في فمها علكة، يظهر نصف شعر رأسها من قطعة القماش المربوطة، وبيدها أداة سحب الدم من الجسم يبدو أنها سحبت بها لأكثر من عشرة أشخاص ولم تنظفها بعد، نظرت إلينا باشمئزاز غريب وهدوء أعصاب يكاد يفجر البراكين التي بداخلنا وسحبت الدم من المريض وغادرت.

غرفة الرعاية يجب أن تكون مؤهلة للرعاية حقاً، لا تمرض مَن يدخلها.. هذه الغرفة شعرنا وكأنها غرفة لسحب الأرواح من الأجساد، كأنها تقول: أنتم سلمتموني المريض وأنا سأسلمه لكم جثة.. توقف صاحبنا الباكي عن النحيب وجلس يتأملها وكأنه يشعر بما نشعر به جميعاً.

بعد يومين من الأنين في غرفة الموت أو ما تسمى بالرعاية، مات المريض متأثراً بألمٍ لم يشهد مثله قط في حياته، مات وعيناه إلى السقف تقول: كان بإمكانكم أن تنقذوني، ولكن قدر الله نافذ لا محالة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمد عبدالغني
كاتب ومدير تسويق
تحميل المزيد